لا يبدو واضحاً لغاية الآن ما إذا كانت التحركات التي تحصل هذه الأيام في تركيا يمكن أن نطلق عليها اسم ثورة أو كما ذهب إليه المتفائلون جداً من العرب المتحمّسين والناقمين على رئيس الوزراء التركي أردوغان من موقفه تجاه الثورات العربية وتحديداً سوريا عندما أطلقوا تسمية "الربيع التركي" على ما يجري في تركيا.

إلاّ أن الثابت الوحيد والظاهر أن هناك نقمة وناراً تحت الرماد قد أُشعل ليس فقط بسبب قطع بعض شجرات يتنزه حوله العامة من الأتراك أو بعض السياح ممّن سمعوا عن ساحة "تقسيم" الشهيرة ورمزيتها لدى الأترك، إنما يبدو أن موجة الغضب قد تفجرت لتتحول نقمة شخصية ضد أردوغان "وسياساته الاستبدادية" كما يصفها بعض مناوئيه.

لقد اختال رئيس الوزراء مزهواً بفوزه الكاسح في الانتخابات ليقول لمن يتظاهر اليوم أنهم مجموعة "رعاع" وبذلك ارتكب الخطأ الأول وهو استهتاره بهذه "القلة" أو مجموعة "اللصوص" كما أسماهم، متناسياً الدروس العربية والتي بدأت إحدى ثوراتها بإشعال "البوعزيزي" التونسي بائع الخضار نفسه، احتجاجاً على الظروف المعيشية لتنفجر بذلك أكبر الثورات التي قلبت وجه المنطقة العربية.

هو أردوغان رئيس الحزب الحاكم في تركيا، والذي فاز حزبه ثلاث مرات بطريقة تباهى بديموقراطيتها ونزاهتها وبتحقيق نمو وانتعاش اقتصادي أصبح يحسده عليه حتى أكثر دول الخليج ثراءً وذلك عبر انتهاج سياسة "ملوّنة" عرفت كيف تستغل التناقضات وتعزف على الوتر الحساس في كل قضية خلافية عربية وإقليمية حسب الظرف المتاح.

لقد وافقت حكومة أردوغان على هدم حديقة "غازي" قرب ميدان تقسيم في قلب أسطنبول لبناء مجمع تجاري- وهو ما نفاه المتظاهرون - من أن هناك نية مبيّتة أيضاً لبناء جامع يعود لأصول عثمانية وهو ما يخالف رأي أنصار العلمانية الذين يتهمون أردوغان بمحاولة الالتفاف على علمانية الدولة والتسلل إلى حكم فردي ديكتاتوري مغلف بطبعة إسلامية حديثة كانت ولا تزال تثير إعجاب واستغراب الجميع.

لقد ردت الحكومة التركية بعنف غير مبرر، حين استعملت الشرطة قنابل الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه، مما أثار المتظاهرين وأشعل الاحتجاجات في مدن أخرى مثل أنقرة وبودروم وأزمير وغيرها فيما لا يزال "الزعيم" التركي يكمل جولة إفريقية، معتبراً أن ما يحصل مجرد شغب يمكن التعامل معه بحزم، وأن "المندسين" هم وراء أعمال الشغب هذه تحرضهم جهات داخلية وخارجية، وهنا وقع في الخطأ الثاني.

لا شك أن هذه العبارة الأخيرة تعيد إلى الذاكرة في الماضي القريب جداً عبارات استخدمها بعض حكام العرب عن أيادي تعبث في أمن الوطن وعن وجود أجندات خارجية تحركها، وهو ما يهزأ به الحاكم التركي، معتبراً أن التظاهرات في كل البلدان هي محقّة وتدل على رغبة الشعب في التغيير ولا يجب قمعها بقسوة وإنما التعامل معها بلين.

إن بعض هذه الاحتجاجات سببها المباشر يتعلق بإعادة تنظيم قسم من ساحة تقسيم في قلب اسطنبول، وهو المشروع الذي طرحه حزب العدالة والتنمية في برنامجه الذي ترشح نوابه على أساسه في الانتخابات الأخيرة وحصل على موافقة الناخبين، أما الأسباب الأخرى فهي أسباب متراكمة لها علاقة بالمعترضين على سياسات أردوغان الموصوفة بمعاداتها للعلمانية وبإبعادها عن ركائزها الأتاتوركية وهو ما يجاهر به حزب "الشعب الجمهوري" المعارض دوماً، ناهيك عن تداخل العنصر الخارجي وذلك على خلفية الدور التركي في الأزمة السورية وحادثة بلدة الريحانية الحدودية خير دليل على ذلك.

ربما لهذا السبب يأخذ هذا الحدث التركي الداخلي أبعاداً إقليمية حيث تنادت الأصوات الغربية والمواقف الشاجبة لتعامل الشرطة مع المتظاهرين علماً بأن تظاهرات واحتجاجات مشابهة حصلت في مدن باريس ولندن وروما أيضاً على خلفيات مطلبية وتصدت لها الشرطة بخراطيم المياه وذلك خوفاً من الوقوع في نفس "الشَّرَكْ السوري" في تركيا التي لطالما تغنّت بالديموقراطية وحقوق الإنسان وعايرت بها الدول العربية على قساوتها وبطشها لشعبها.

لقد تحولت هذه المواجهات إلى صرخة "كفى" أطلقها "الخمسون في المئة" الذين لم يعطوا أردوغان أصواتهم والذين كسروا حاجز الخوف ورهبة الجيش حيث طفح الكيل معهم فخرجوا لإحياء حرياتهم وقيمهم العلمانية، خرجوا احتجاجاً على بيع المال العام وتحويل المدن إلى مراكز تجارية، خرجوا ليقولوا لأردوغان "الرأسمالي المسلم".. كفى.

لذلك تحولت هذه المواجهات إلى عمليات تصفية حساب داخلية ضد معارضي "حزب العدالة والتنمية" بما فيها عمليات التضييق الشهيرة على الصحفيين وعمليات الهيمنة على الأقلام والأصوات وقنوات التلفزة، ليدور أكثرها في فلك حزب العدالة والتنمية والذي حاول أيضاً كسب المتقاعدين والبسطاء بانتهاج سياسة بدل تعويض لهم يغنيهم عن حرج السؤال والعوز، إضافة إلى سياسة محنّكة لتشكيلاتٍ دقيقة في الجيش والأجهزة العسكرية ليتفادى غضب العسكر وانقلاباتهم وهي سياسة نجحت لغاية الآن نسبياً رغم بعض الشوائب والعثرات التي استطاع أردوغان بحنكة تجاوزها.

السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل يستطيع أردوغان أن يتجاوز هذه المحنة بنجاح وأن يستفيد من دروس الدول العربية المجاورة، وأن يحافظ على إنجازات العدالة والتنمية خلال العشر سنوات الماضية، والحفاظ أيضاً على النموذج التركي كمشروع حداثي لمجتمع مسلم، ام أنه سينزلق إلى ما وصلت إليه الأمور في بلدان لطالما انتقدها ووصفها بالدكتاتورية والتسلط؟

المقبل من الأيام سوف يتيح لنا متابعة "الدكتاتورية العربية" مدبلجة "بالنسخة التركية"!