لا تتميز فقط بلدة ​عاريا​ بكونها في الوقت نفسه بلدة مرتفعة قليلاً عن سطح البحر وبعيدة بضعة دقائق عن العاصمة بيروت، إنما تتميز أيضاً بمساحاتها الخضراء التي دفعت بالبلدية إلى تبني شجرة الصنوبر كشعار لها وبمحافظتها على الأحراش الممتدة في خراج البلدة. إلا أن حركة غريبة للشاحنات المحملة بالردميات في الجهة الجنوبية لعاريا أدّت إلى تخوّف بعض الأهالي من استغلال هذه المساحات الخضراء وتحويلها إلى مجرّد مكبّ لها، وأصبح الخوف أكثر واقعية أيضاً بعد أن رأوا من منطقة اللويزة المطلة على عاريا مساحة خضراء من ذلك الحرش مطمورة، الأمر الذي دفع أحدهم للإتصال بـ"النشرة" مستعلماً عن إمكانية القيام بعمل كهذا في المناطق الخضراء القليلة المتبقية في قضاء بعبدا.

يتساءل ابن عاريا هذا، رافضاً الكشف عن اسمه، عن جدوى هذه الردمية، وعن المنفعة من إلحاق "هذا الضرر الفادح" بالطبيعة إذ إن علّو الردم يصل إلى حوالي الـ15 متراً وعرضه يتخطى الـ7 أمتار، مشيراً إلى "أنه يتم الحديث في البلدة عن أن البلدية اتفقت مع متعهد الأوتستراد العربي على رمي الردميات في هذه المنطقة البعيدة عن الأنظار مقابل "بونات" يقطعها أحد أبناء البلدة للشاحنات... ولكننا لا نعرف المزيد"، فيما يكشف لنا آخر أن "أعمال الردم توقفت في الآونة الأخيرة بعد أن قام العميد ف.د، صاحب أحد العقارات القريبة، بالضغط بهذا الإتجاه".

خراب بيئي أو خلاص؟

اتجهنا إلى مكان الردمية، فكانت الطريق المؤدية إليها وعرة جداً حتى وصلنا إلى منحدر يطل على وادٍ وتحيطه الأشجار يميناً ويساراً. وتحت الردم، على الأطراف، وجدنا نصف جذع عدد من الأشجار مطموراً، فيما النصف الآخر فوقها يصارع للحياة. ويمكن للواقف على الردمية الزاحلة أن يلقي نظرة على كل الخضار المحيط، لأن الإرتفاع 15 متراً يؤدي إلى أن يفوق طول الإنسان طول الأشجار المحيطة.

يحزن ابن عاريا الذي رافقنا إلى المكان عندما ينظر إلى "الخراب البيئي" كما وصفه، ويقول: "مين بيعرف لوين بدن يوصلوا... ما في ولا ضوابط للردم".

إلا أن لرئيس بلدية عاريا ​بيار بجاني​ رؤية أخرى مختلفة تماماً لما يجري هناك. فهو يسعى لإنشاء مشروع إنمائي وبيئي، يقضي ببناء محطة لتكرير المياه المبتذلة في الحرش تجنباً لضخ كل مجارير عاريا (كما هي الحال في معظم البلديات المحيطة) في نهر بيروت بطريقة "بتوجع القلب" على حد تعبيره.

ويشرح بجاني، من مكتبه الذي استقبلنا فيه عارضاً علينا الخرائط والإتفاقيات التي عقدها مع شركة Triple E الفرنسية، أن هذا المشروع هو أحد المشاريع الذي تقوم بها البلدية "بناء على التوأمة بيننا وبين بلدية "شوليه" في فرنسا بإشراف جمعية عاريا وشوليه للإنماء".

فتح طريق في الحرش دون قلع الشجر!

ويقول في هذا الإطار: "قررنا أن نكون السبّاقين بإنهاء هذا الموضوع، فاتفقنا مع "شوليه" على إنشاء المحطة. ولإنشائها كنا نحتاج إلى أرض في آخر البلدة، ونظراً لغياب الإمكانيات المادية، طلبنا من الوقف الماروني أن يسمح لنا بإنشائها على العقار 182 التابع له وتمت الموافقة على ذلك. في هذا الوقت، قام بعض الأشخاص بأخذ حق مرور للبناء على أرضهم، فحصلوا على رخصة لشق الطريق بالقرب من العقار 182. فاستغنمنا الفرصة للوصول بدورنا الى هدفنا بعد أن قمنا بدراسات مع الشركة المعنية وسددنا الدفعة الأولى لها".

وينفى بجاني أن يكون قد تعرض لأي ضغط من أي عميد، مشدداً على "أننا مستمرون بعملنا، والعميد أرضه بعيدة عن العقار، ولا نسمح لأحد على أي حال بالضغط علينا لأنه ليس لدينا مصلحة خاصة".

وعن التعامل مع متعهد الأوتستراد العربي، يشرح رئيس البلدية أن المتعهد "قال لنا أن لديه ردميات، فتعاونا لكي يساعدنا في الوصول إلى هدفنا، لأن هذه الردمية لم يتم وضعها "كيف ما كان" بل بطريقة معينة وبمساعدة "تراكتور". قلنا له أنه مقابل هذه النقليات سيصار إلى تعبيد جزء من الطريق على عاتقه، لكي لا ندخل في قضية أن البلدية تربح الأموال من المتعهد"، معتبراً أن ما يقوم به في هذا الإطار هو "شطارة" لتحقيق المصلحة العامة دون مخالفة القانون.

ويشدد على أنه لم يتم اقتلاع أي شجرة من المكان، وهذا ما يؤكده أيضاً جوزيف الأشقر، المسؤول عن الأشغال في حديث لـ"النشرة".

وعن وجود بعض النفايات والجفصين في المكان يقول الأشقر: "علمنا بذلك وعرفنا من وراء رمي هذه المواد وسنقدّم مخالفة بحقه".

إلا أنه وخلال معاينتنا للحرش، لاحظنا أنه مليء بالأشجار، ووجود الأشجار نصف المطمورة على أطراف الردم تضع علامات استفهام على حجم الخسائر الخضراء الفعلية. وفي هذا الإطار يقول بجاني: "بالطبع إن المنظر موهل (شو يعني موهل) الآن لأنه حين يبدأ العمل على إنشاء طريق لا يمكن فقط وضع التراب على مساحة 3 أو 4 أمتار بل على مساحة أكبر من ذلك"، مشدداً على حرصه الشخصي على موضوع الأشجار "ولكن في النهاية إذا أجبرنا على اقتلاع الشجر... فما باليد حيلة، إذ إننا نعمل في حرش ولكننا نسعى في الوقت نفسه إلى حل مشكلة بيئية أخرى".

ويؤكد أن الإثبات لعدم قطعه للأشجار هو استغلاله لـ"طريق إجر" كانت تستخدم سابقاً. إلا أن هذا الأمر ينفيه بشدّة ابن عاريا الذي يشير إلى أن أكثر ما أثار استغرابه عندما عاين المكان للمرة الأولى كان أن الردمية أتت بشكل معاكس لهذا الامر، ويقول أن هذا جعله يشك بهدف ما يتم رميه هناك.

وينتقد بجاني عمل بعض الجمعيات الأهلية في بلدته، واصفاً إياها بأنها تخضع لحسابات شخصية، متمنياً عليها "عدم مزج الصالح بالعاطل". ويضيف: "للأسف في لبنان، بمجرد أن يصل أحدهم إلى الخدمة العامة وإلى مركز متعلق بالشأن العام يصبح في خانة الإتهام... وقد يكون ذلك بسبب الفساد المستشري في البلاد، ولكن ليس الجميع بفاسد وعلى المجتمع المدني التمييز بين المشاريع الجيدة وتلك التي تضرّ".

الإتفاقيات مبرمة، وما من شيء على ما يبدو سيوقف مشروع إنشاء محطة التكرير في حرش عاريا قريباً، ولكن تبقى الحاجة للمحافظة على المساحات الخضراء وحمايتها من أي تعدٍ ماسة وملحة في وقت تخطت فيه الأزمة البيئية في لبنان كل الخطوط الحمر في البحر والبر والجو...

وحدها الأيام قادرة أن تثبت الإفادة الفعلية من مشروع التكرير هذا المهم جداً لتخفيض نسبة التلوث في نهر بيروت. ففي هذا السياق يحذر بعض المتابعين للملف البيئي القيمين على المشروع من أن ينتهي به الأمر كما جرى في محطة التكرير في الأوزاعي العاطلة عن العمل منذ مدة، والتي لا يوجد منها اليوم إلا شكلها الخارجي، مشددين على ضرورة المثابرة لعدم الوصول إلى هذه النقطة فتكون فد دفعت الأموال العامة ودمّرت المساحات الخضراء بهدف إنشاء المحطة ومن ثم، ومع مجيء بلدية جديدة أو مع مرور سنوات قليلة، يتوقف العمل بها فجأة...

ويبقى المواطن هو الخفير الأول والضامن لعدم تطور الأمور بإتجاه مضرّ بالبيئة والطبيعة التي بات المدافعون عنها اليوم قلّة قليلة.