هو طمر البحر بأشكاله العديدة التي يأخذها في لبنان: من رمي الردميات، إلى الباطون... وحتى النفايات. فتكاد لا تمرّ أيام قليلة حتى يجد المتابعون للملف البحري في لبنان أنفسهم أمام خبر جديد أو أمام صورة جديدة تكشف تعدّيا آخر على الحياة البحرية وعلى صحة الناس.

أما حال مكبّ صيدا "البحري" فيخرج عن المألوف ليتخطاه بأشواط. فهذا المكب الذي يحتوي على أطنان وأطنان من النفايات المتراكمة لمدة تتخطى الـ40 عاماً بات للأسف أحد معالم القرن الحالي لهذه المدينة الفينيقية. إلا أن المتعهد بأعمال إزالته، التي بدأت منذ فترة بشكل جدّي وفق مشروع أعدته البلدية، يقوم اليوم برمي أجزاء من الجبل في البحر. ولدى توجه بعض الناشطين المحليين إلى جانب إعلام صيدا المحلي للتصوير سعياً للإضاءة على هذا الأمر، منع هؤلاء من ذلك، مما زاد نقاط الإستفهام حول ما يجري حقيقة هناك.

مشروع بيئي أو تجاري؟

يتخوف المهندس البيئي زياد أبي شاكر، المتابع للملف منذ الـ1999، من أن يكون بُعد المشروع هناك عقاريا وليس بيئياً، مشيراً إلى أن "الذين يقومون بالأعمال هناك هم مجموعة من المقاولين الذين لا يعرفون بشؤون الطبيعة وكيفية حمايتها". ويرى أن "المشروع العقاري الذي يفكرون به قد سددوا مصاريفه دون أن يدفعوا ليرة واحدة، فقد حصلوا على 25 مليون دولار من الدولة اللبنانية من ضرائبنا حتى يحصلوا في نهاية المطاف على أرض لإستثماراتهم العقارية، واليوم نراهم يرمون النفايات في البحر بهذه الطريقة"، مشدداً على أنه "لو اننا كنا نريد رمي النفايات في البحر لكانت أي بلدية أقدمت على ذلك".

هذا الأمر يوافق عليه أيضاً نقيب الغواصين المحترفين في لبنان وخبير الشؤون البحرية لدى المحاكم اللبنانية محمد السارجي، الذي يصف المشروع بـ"التجاري بامتياز".

من قلب البحر: مشاهد طمر مستمرة

"النشرة" اتجهت إلى صيدا للوقوف عند حقيقة ما يجري هناك. وفي جولة بحرية في قارب أحد الصيّادين، رأت كيف تحوّل كل البحر إلى مشروع كبير: من هنا رمي بعض الصخور الكبيرة لإنشاء مرفأ سياحي، ومن هناك العمل على إنهاء حاجز الموج، شاحنات محمّلة وآليات كبيرة تنتشل الصخور لترميها... حتى وصلنا إلى الجانب البحري من المكب، ورأينا عملية رمي النفايات في البحر، ولو بطريقة أخجل بقليل من تلك التي تظهر في صور الناشطين عبر مواقع التواصل الإجتماعي، وقد يعود ذلك إلى "كون عملهم قد فُضح"، بحسب السارجي.

النفايات محصورة بحاجز ولكن...

أما رئيس لجنة البيئة في بلدية صيدا محمد البابا فلديه قصّة ثانية مختلفة تماماً. فهو ينفي أن تكون النفايات ترمى في البحر "بالصورة التي ظهرت للناس، فهي ترمى في منطقة محصورة في حاجز الأمواج"، مشدداً على أن "ما تم دفعه إلى البحر من الجبل لا يذهب إلى البحر، بل ينزل في منطقة جدّ محصورة بحاجز الأمواج المقفل، والذي لا يبقى منه مفتوحاً إلا 50 متراً، وفي نهاية الشهر سينتهي بالطبع".

ويذكر بأن البلدية كانت قد حددت ثلاثة مراحل لمعالجته: أولا، وفق الرمي فيه، وهذا ما تم منذ بداية السنة مع بدء عمل معمل إعادة التدوير. ثانياً، إنشاء حاجز الأمواج لكي يتم تحديد المنطقة وتصوينها حتى لا تنتشر النفايات في كل البحر كما كان عليه الوضع قبل وضع الحاجز، ومن المفترض أن يقفل بالكامل بعد شهر. وثالثاً، معالجة الجبل التي أشرف على تلزيمها برنامج الأمم المتحدة للتنمية، وربحت التلزيم شركة فرنسية، وكل شركة تتعاقد مع متعهد ثانٍ، فتعاقدت هذه مع جهاد العرب.

إلا أنه، وخلال جولتنا البحرية، لاحظنا أن مسافة الـ50 متراً كانت كافية لنرى شتى أنواع النفايات تسبح على سطح البحر: من أحذية إلى أكياس نايلون وإلى كل ما يتخيله المرء أو لا يتخيله...

وفي هذا الإطار يشدد أبي شاكر على أنه، وفي أي حال، فإن هذا الحاجز لا يمكنه أن يمنع علمياً انتقال الملوثات الغازية إلى كل مياه البحر، شارحاً أن "تراكم النفايات لأعوام عدّة يؤدي إلى تفاعلها ويصدر عن هذا التفاعل غاز "الميتان" الذي لا يمكن أن يتنفسه الإنسان في مكان مغلق لدقيقة واحدة، فيختنق مباشرة رغم أن لا رائحة غريبة له". ويضيف: "جزء من هذا الغاز يتبخر في الهواء والجزء الآخر يبقى مطموراً مع التراب. وبالتالي، فإن رمي النفايات في المياه بهذا الشكل يؤدي إلى وصول مادة الميتان إلى المياه والقضاء على ما تبقى من الحياة في البحر هناك. فبذلك نصبح أمام واقع: التراب غير معالج، المواد العضوية غير معالجة، و"الميتان" في المياه"، مشيراً إلى أنه في جبل النفايات هذا يوجد على الأقل مليون متر مكعب من "الميتان".

تحقيقا لما يطلبه رجال الإطفاء!

أما عن أسباب الطمر بالنفايات، فيوضح البابا أن "حريقاً هائلاً نشب في المكب منذ حوالي الأسبوعين، وواجه رجال الإطفاء مشكلة كبيرة في إخماده وتعرض 3 أشخاص لحروق إلى جانب حالات إغماء عدّة تمت معالجتها". ويشير إلى أنّ المشكلة الأساسية كانت عدم تمكن شاحنات رمي التراب وشاحنات الدفاع المدني من الوصول إل الجانب الآخر من المكب، فأطفئ الجانب الذي يطل على البر، فيما بقي الجانب البحري مشتعلاً. ويضيف: "طالب رجال الإطفاء حينها بإنشاء طريق لكي يتمكنوا من إخماد الحرائق لأن التفاعلات في المكب تؤدي لإحتراقه من فترة إلى أخرى، وبالتالي، فإن ما يقوم به المتعهد اليوم هو توسيع فسحة، عبر رمي جزء من المكب في البحر، للتمكن من فتح الطريق".

إلا أنه يشدد على أن "فرز النفايات سيصل إلى آخر نقطة من الجبل في البحر، ولن تترك ورقة واحدة هناك، فعلى هذا الأساس تمّ الإتفاق مع المتعهد، وبالتالي فإن فتح الطريق يزيد من تعقيد عمله ولا يساعده لأنه سينزل إلى قعر البحر لإنتشال ما رماه"، مشيراً إلى أنه "وعلى كل حال فهم بحاجة إلى القيام بذلك لكي يتمكنوا من العمل".

"كلام فارغ" و "ضحك على عقول الناس"

يصف السارجي هذا الكلام بأنه "كلام فارغ"، ويسأل: "إذا أرادوا فعلاً فتح طريق لماذا لم يطمروا المساحة التي يريدونها بالتراب والصخور بدلاً من رمي النفايات؟"

وإذ يعتبر أنّ هذه البداية ليست جيدة للمشروع، يرى "أنهم يحاولون استغباء الناس، فلو لم يفضحهم أبناء المدينة لما كان ردعهم أي شيء".

أما أبي شاكر، فيعتبر أن هدف إنشاء الطريق، "إذا كان حقيقياً فـ"نص مصيبة" إذ قد نتحمّل هذا الأمر كما يتحمل المريض الإبرة التي تؤلمه، إذا كان ما يراد منه إخماد الحرائق بسرعة أكبر". ولكنه يعبّر عن تخوفه من "أن يجدوا كل مرّة حجة جديدة لكي يطمروا المزيد من النفايات في البحر حتى يصلوا إلى مكسر الموج ليحولوا كل المساحة إلى مساحة عقارية". ويؤكد "أننا سننتظر ونرى ماذا سيجري، وإذا كانوا حقاً يريدون فتح طريق أو لا".

ويقول: "لو كان الأمر كذلك لكان يجدر بهم على الأقل وضع الناس والهيئات الأهلية بالأجواء والتحدث معهم بشفافية لا أن يقوموا به بهذه الطريقة، فقد أخافتنا طريقة تعاملهم مع الذين ذهبوا إلى المكان".

ويعتبر أن "من حقنا أن نتخوف من أجندة مخفية لأن تاريخ هذا المكب مخيف، وتاريخ الأشخاص الذين يعملون في الملف مخيف أيضاً. فالمتعهد جهاد العرب هو الذي رمى نفايات "النورماندي" ونثرها في مختلف أنحاء لبنان، وبالتالي عليهم أن يفهموا ردات فعلنا"، واصفاً "الذين نتعامل معهم" بأنهم "إستثماريون من الطراز الأول ويرون كل لبنان كأنه REAL ESTATE (مساحات عقارية)، وتاريخهم البيئي غير مطمئن". ويتابع: "يقولون أن شركة فرنسية ستشرف أيضاً على الأعمال... سنرى كل هذا وسنتابعه عن كثب".

والسارجي يتخوف بدوره من دور المتعهد "لأننا رأيناه كيف يتعامل مع ملفات النفايات"، مشدداً على أن "أقصى ما نتمناه اليوم هو الوصول إلى معالجة بالطريقة السليمة، ونتمنى مراقبة صحيحة وإطلاع المجتمع المدني على القرارات المتخذة".

المراقبة "حق للناس"

وفي هذا الإطار يناشد رئيس جمعية التنمية للإنسان والبيئة - DPNA فضل الله حسونة "وزارة البيئة وكل معني بالملف مراقبة المعالجة التي تجري للمكب وفق منظور علمي"، معتبراً أن ذلك هو "حق للناس وحق للثروة البحرية لكي لا يجري أي خطأ بسبب أي تقصير من أي جهة".

ويشدد على أن "كل ما يهمنا هو أن تجري المعالجة بطريقة علمية، فالمفترض أن يفرض على المتعهد القيام بعمله وفق منظور علمي وعليه أن يشرح ما يقوم به وكيف، وعلينا كجمعيات أن نكون شركاء في المراقبة، فالأمر الأكيد هو أن النفايات ترمى في البحر، وهذا بات حقيقة واضحة"، مذكراً بأهمية البحر اللبناني كمصدر أساسي للإقتصاد وبضرورة عدم إهماله وتلويثه أكثر.

أما البابا فيؤكد أنه "يمكن منع أي تلاعب عبر المراقبة، والجهات المراقبة اليوم هي برنامج الأمم المتحدة للتنمية، ووزارة البيئة ووزارة الأشغال".

وحدها الأيام كفيلة لإظهار حقيقة ما يجري في هذا المكب، ولكن الأكيد هو أن أعين المتابعين للشؤون البيئية "10 – 10" عليه، للإضاءة على كل ما يمكن أن يضع أي نقطة إستفهام حول طرق إزالة "جبل الزبالة" هذا، لكي لا يتكرر ما حصل في مكب "النورماندي".

تصوير حسين بيضون (الألبوم الكاملهنا)