باتت الإتصالات التي تتلقاها "النشرة" لفضح "ردميات سريّة" هنا وهناك شبه روتينية... فليس الأمن وحده سائباً في لبنان، بل التعديات على البيئة تفوق الفلتان الأمني وتصبح يوماً بعد يوم من اليوميات اللبنانية "العادية"... خصوصاً إذا كان القيمون عليها "مدعومين" وهم يستغلّون الفلتان الأمني ليعملوا كوطاويط الليل من دون حسيب أو رقيب.

الطريقة... "كارثية"؟!

إميل، ابن الـ14 سنة، لم يتردد بالإنفراد في غرفته ليذرف بعض الدموع عندما رأى "أجمل ذكرياته" تتهدم أمام عينيه. يومها، عاد من المدرسة، فاجتمع مع صديقيه شربل وشارلي اللذين شاركاه كل "المغامرات" في حرش بلدة "​مستيتا​ - بلاط": من بناء العرزال على الشجر المرتفع، إلى اكتشاف مغاور الوطاويط، وحتى إلى مراقبة الضبع الموجود هناك... وفي ذلك الإجتماع... عبّروا عن "حزنهم الشديد" لأن أحدهم قرر رمي الردم بشكل كبير في الوادي، وقضى بذلك على "عدد هائل" من الأشجار، كما قالوا، ووصل حتى إلى مجرى نهر الفيدار.

لم يكتف إميل بالإستنكار وإدانة هذا الحدث، بل قرر التصدي له بشتّى الطرق، وفي حديثنا معه، أكد لنا أن "رمي الردم بهذه الطريقة هو أمر كارثي، لأنه، عندما يقوم أحدهم بافتعال حريق، يقضي على الشجر ولكن الجذور تبقى في الأرض مما يؤدي إلى إعادة تكوينها من جديد. أما رمي هذه المواد فتقضي على الشجر بشكل كامل وعلى الجذور أيضاً". وهو قد بحث عن كل هذه المعلومات عبر روابط مختلفة على الإنترنت. وقال: "القانون يعاقب من يفتعل أي حريق... وعليه أن يكون أكثر صرامة مع الذين يردمون بهذا الشكل".

قد يكون هذا الفتى أكثر وعياً ونضوجاً وتحسساً لضرورة الحفاظ على البيئة من القيمين فعلاً على هذا الأمر، وهو الذي تربى على حمايتها، ويلاحظ يوماً بعد يوم أن الحياة في لبنان مناقضة تماماً لما يتعلمه في كتب التربية الوطنية.

الردم تصحّر وصناعة للموت

وفي هذا الإطار، يؤكد رئيس الحركة البيئية اللبنانية ​بول أبي راشد​ المعلومات التي حصل عليها إميل خلال بحثه، مشيراً إلى أن "الردم هو أكثر ضرراً وخطورة من قطع الشجر ومن الحرائق". ويشرح في حديث لـ"النشرة" أن "الردم هو تصحّر، فمن خلاله يتم رمي الصخور والأتربة التي لا تحتوي على مواد عضوية فوق الأرض الخصبة التي تكونّت على مرّ السنوات... وبذلك نصنع الموت"، كاشفاً أن هذا الأمر يتكرر في مختلف المناطق اللبنانية تحت أعين البلديات أو الدرك.

ويشدد على رفض هذه الأمور المدمّرة للطبيعة "إذ لا يمكن العودة عنها إلى الوراء". ويعتبر أن "البعض يستغلّ المشاكل الأمنية في البلد وحالة الذعر أو الترقب التي يعيش فيها المواطنين للتمادي بالإعتداء على الطبيعة، ولكن عندما يستفيق اللبنانيون من هذه الحالة، هل سيبقى شاطئ أو وادٍ أو جبل؟"

وتجدر الإشارة إلى أن الحركة البيئية اللبنانية كانت قد تلقت إتصالاً من الأهالي في مستيتا يدعونها فيه للتصدّي لما يجري في تلك المنطقة.

مدعوم...

ليس إميل الأكثر انزعاجاً في البلدة مما يجري في شارع "إريكسون-كفركلاس". فقد أكد أحد أبناء البلدة لـ"النشرة"، رافضاً الكشف عن اسمه، أن "الردميات ترمى عند الـ7 صباحاً، وفي فترة بعد الظهر، أي بعد إقفال الدوائر الرسمية لكي لا يتابع أحد ما يجري"، مشيراً إلى أنه "كل مرّة يرمى الردم فيها يعلو الإنزعاج بسبب الغبار، وغالباً ما يشتكي سكّان الحي من ذلك". لكنه يتابع ويقول: "المشكلة الأساس ليست بالغبار بل بكمية الشجر الذي تحطّم وتم القضاء عليه تماماً، وبوصول هذه الردمية إلى مجرى نهر الفيدار، وما لذلك من أضرار جسيمة على البيئة ككل وليس فقط على جمالية هذا الوادي الخلاّب في قضاء جبيل".

وفي اتصال برئيس بلدية الفيدار السابق عصام باسيل أكد لنا أنه "اتصل مرتين بالدرك بسبب وصول الردم إلى مجرى النهر، ولكن الأعمال ما زالت مستمرة". وعمّا إذا كان صاحب "الورشة" مدعوماً كما يقال في البلدة أجاب: "اتركونا من هذا الموضوع...".

أما ابن البلدة، فيشرح أنه "توجه إلى وزارة الزراعة المعنية بالأحراش، وذلك للفت الإنتباه إلى أن جزءاً من الوادي في مستيتا-بلاط أصبح يابساً، ولفت نظر المعنيين بالأمر هناك إلى وجود ردمية، فأرسلوا مهندسين لرؤية ما يجري، وسبقهم عناصر من الدرك الذين، وبعد إتصالات قالوا: "هيدا مدعوم ما منقدر نعمل معو شي". أما موفد وزارة الزراعة إلى المكان إيلي معلوف فرفض التصريح لـ"النشرة"، ورغم اصرارنا اكتفى بالقول: "بدي اعتذر منك... بدي اعتذر منك... ما بدي إحكي بالموضوع". وعلمت "النشرة" أنه خلال اتصال إحدى السيدات بمعلوف، للمطالبة بوقف ما يجري، قام الأخير بإقفال الخط بوجهها بعد إصرارها على الحديث معه.

الردمية مخالفة للقانون

وتجدر الإشارة إلى أنه، وبناء لمرسوم المحافظة على النظافة العامة الصادر عام 1974، يمنع طرح أنقاض المباني "على الشوارع والساحات العامة وملحقاتها وجوانبها وأقنيتها حتى حدود التراجع القانوني وفي مجاري المياه وضفافها وعلى الأملاك العامة البحرية والأراضي المشاعية للقرى وعلى أملاك الدولة والبلدية الخاصة". ويشير المرسوم في مادته الـ12 إلى أن "أنقاض المباني وأتربة الحفريات والحجارة وغيرها تطرح في الورش التي تحتاج إليها أو على العقارات الخاصة المنحدرة أو المنخفضة أو ذات الحفر حيث لا يمنع التنظيم المقرر بمرسوم تغيير طبيعة الأرض وذلك خارج المناطق السياحية والسكنية وبناء على اتفاق مع أصحاب العقارات لغرض تسويتها واستصلاحها واستثمارها ويرخص المحافظ باستعمال العقارات الخاصة لهذه الغاية بعد استطلاع المجلس الصحي في المحافظة".

وبالتالي، فإن رمي الردميات في الوادي نزولا حتى مجرى النهر (ودائماً يكون مجرى النهر ملكاً عاماً)، هو أمر مخالف لأحكام هذا المرسوم. ويبقى ما نشر برسم المعنيين، الّذين يقبضون رواتبهم من ضرائب جيوب من يقفلون الخطوط بوجههم!

تصوير حسين بيضون