لأنّ الأمثال تُروى عِبْرةً للناس، فإنْ لم يسمعوا تتكرر الرواية، فلنكرِّرْها إذاً لعلَّهم يسمعون.

عندما سلَّم أبو عبدالله آخر ملوك العرب في الأندلس مفاتيح غرناطة الى فردينان وإيزابيل، إنسحب الى أحد الجبال القريبة وهو يذرف الدمع على التاج المضيّع، وفجأة رأى امرأة تناديه وهي على جواد أصيل فإذا هي أمُهُ، ولما سألها ماذا تريد قالت: "إبكِ مثل النساء مُلْكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال".

صحيحة هي الأمثال، وصحيحٌ قول من قال: إنّ الشعب طفل صغير ولكنّ الضحك على هذا الشعب لا يمكن أن يستمر طويلاً. وهي الحكمة التي تجلّت تاريخياً في المجتمعات الأوروبية ولا سيما المجتمع الفرنسي، حين كانت كلمة الشعب أيام الملكية تعني المذلّة والإحتقار، مقارنة بطبقة الإكليروس والأشراف، ولكن بعد الثورة على الملكية أصبحت كلمة الشعب تعني هي الجلالة التي تحتقر التيجان.

وقبل ثورة الشعوب على استبداد التيجان كان الملوك يصادرون صلاحيات الله، ويخلعون على أنفسهم نظرية الحق الإلهي، فهم ظلُّ الله على الأرض، باسمه يتولون الأحكام، وإنْ أخطأوا أو تعسَّفوا فعلى الشعب أن يتوجّه باللَّوم الى الله الذي في السماوات، وليس الى سلطة الله التنفيذية على الأرض، فيما الحقيقة الإلهية في هذا المجال، هي التي حدّدها أحد القديسين بأن السلطة ملكٌ لله، والله قد منحها للشعب.

الثورات كلُّها، منذ الثورة الفرنسية، والثورة الإنكليزية الأولى، والإنكليزية الثانية وصولاً الى ثورة أتاتورك، كلها انتهت الى إعلان دساتر جمهوريات جديدة ترفع نير العبودية السلطوية وتحقق حرية الشعوب في إطار توطيد النظُم الديموقراطية في مواجهة أنظمة تُعرف بالإستبداد الشرعي.

وهذه الثورات التي انطلقت في أوروبا إبتداء من العام 1700، وصلت أخبارها هذه الأيام الى العالم العربي، فتلقّاها ربيعاً مجوفاً من المعاني الحقيقية للثورة، ومن مرتكزاتها الأساسية التي هي: الجمهور، والقيادة، والبرنامج، فسقطت الجماهير العربية في مغالطات الثورة، وبدل أن تلتقط نسائم الحرية راحت تتخبَّط في مستنقعات فوضوية قاتلة.

الشعب المصري الذي خضع لدورة تأهيل ثورية في ربيعه الأول، إهتدى أخيراً الى حقيقة هذه المرتكزات الثورية فانتصر. إنتصر بإرادة شعبية حديدية لا تستكين دفاعاً عن الحق وتحرّراً من الظلم.

وانتصر بمسلكية ثورية حضارية تشكل أنموذجاً عصرياً راقياً للإنتفاضات الشعبية الثائرة، ولكل عالم حر.

لقد استوحى المصريون معاني الثورة السياسية التي قام بها سعد زغلول سنة "1919" لتحقيق أهداف الأمة. وهو قد صدق قوله فيهم: "لو كنت أعرف أني أقود أمة تنقاد لكل زعيم دونما تبصر أو إدراك كما يصفها أعداؤها، لما رضيت بأن أكون قائداً لها". وأكّد المصريون أيضاً أن الفرعونية ليست مجرد أجسام صنمية، ومجسّمات من حجر، بل هي حضارة تستحضر عراقة شعب إنْ هو أغمض العين في غفلة من الزمن إلا أنه لا يغرق مثلَّجاً في غياهب الرقاد.

لقد أطلقت الثورة المصرية ثقافة راقية لشعوب الدول العربية وللقوات المسلّحة فيها، فليس الجيش هو الحل في النظام الديموقراطي.

ولم تعد "خريطة طريق" التغيير تعتمد الإنقلابات العسكرية، ليحل نظام ديكتاتوري محل نظام ديكتاتوري آخر من طريق العبث بإرادة الشعب، فلا يعود أمام الشعب خيار للخلاص إلا بالثورة أو بالإنتحار.

الحقيقة التاريخية التي نستخلصها من الأمثال، ومن الثورة العربية الحضارية في مصر، هي التي تتوجه أولاً:

- الى الحكام الذين يعتبرون أنفسهم ملوكاً إلهيّين، يَرِثون الحكم ويورثونه من بعدهم الى آخر سلالة الذرية، فيتحول بهم الملك الرئيس الى قاتل مقدس.

- الى الشعب الذي يرتفع بالثورة الى مصافها العلمي والحضاري، المنظَّم بقوة إرادة العزم لا بهواية حمَّامات الدم، فلا ينام على هوان الذين ارتقوا المناصب بسطوة سوطهم لا بسلطة صوته.

- الى من يحاولون أن يفرضوا السلطة الدينية فوق جثة الديموقراطية، فيما يرى الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه Gauchet "أن الأديان لا تعيش إلا بالخروج من الدين أي بتكييف العقيدة الدينية مع المتطلبات الشرعية للديموقراطية".

بعد هذا، فليتوقَّفْ الثوريون الوهميون عما يعتبرونه انتصاراً لثوراتهم المزيفة، فيما الإنتصار ما هو إلاَّ تقهقر في اللحظة التي ينجح فيها أنصارها.

وليبكِ عبدالله مثْلَ النساء مُلْكاً لم يحافظ عليه مثل الرجال.