عندما كانت الإنفجارات تطارد شخصيّات لبنانيّة، أغلبيتها من قوى "14 آذار"، إعتباراً من العام 2005 وحتى الأمس القريب، كانت بعض الدوائر الإستخباريّة تروّج لمعلومات مغلوطة، للتعتيم على المجرمين الحقيقيّين، وذلك عبر القول إنّ هذه التفجيرات متعمّدة من قبل الجماعة المُستَهدفة نفسها، وترمي إلى الحصول على "قرارات" لصالحها من مجلس الأمن الدولي أو من المحكمة الدوليّة، وحتى عبر تسخيف هذه الإنفجارات ونسبها إلى خلافات مع تجّار مخدّرات وحتى إلى خيانات زوجية! واليوم، تعمد جهات لا تقلّ خبثاً، لكن في الجهة المقابلة، إلى القول إنّ إنفجار "بئر العبد" - وكونه لم يُسفر عن سقوط أيّ قتيل، هو من تدبير "حزب الله"، وذلك لشحن مؤيّديه، ولتبرير إصراره على القتال في سوريا! لكن الحقيقة هي غير ذلك تماماً في الحالين المذكورين أعلاه!

فعدم سقوط قتلى في إنفجار "بئر العبد"، لم يكن بسبب تعمّد هذا الأمر من قبل المنفّذين، بل بسبب ظروف معيّنة حالت دون النجاح في إيقاع أذى أكبر من الذي حصل. ومن أبرز هذه الأسباب:

أولاً: إنّ العبوة الناسفة المستخدمة لم تكن بالحجم الكافي للتسبّب بانهيار المباني المحيطة التي تحطّمت ألواحها الزجاجية بشكل كامل، وتخلّعت إطارات أبوابها ونوافذها بشكل جزئي. لكنها كانت كافية لإيقاع ضحايا كُثر في ظروف تفجير مختلفة.

ثانياً: إنّ وقوع الإنفجار داخل مرآب للسيارات، أيّ عملياً في ساحة مفتوحة، أدّى إلى تشتّت الموجات الإنضغاطيّة التدميريّة التي يتسبّب بها أيّ إنفجار، مهما كان حجمه، في الهواء. وهذا ما حال دون زيادة الخسائر المادية والبشريّة على السواء.

ثالثاً: إنّ خلوّ الدائرة الضيّقة المحيطة بموقع الإنفجار من المشاة والمواطنين لحظة التفجير، ساهم بدوره بانعدام الوفيّات، حيث إقتصرت الإصابات بأغلبيّتها على جروح طفيفة بفعل تناثر الزجاج، أو سقوط بعض الحطام.

وممّا تقدّم يمكن الإستنتاج أّنّ هدف منفّذي الإنفجار يتعدّى "توجيه الرسائل"، ويصل إلى حدود "إيقاع الأذى" المتعمّد. وربّما لو كانت العبوة أكبر بقليل، أو لو كان موقع التفجير في غير مكان مكشوف، أو لو صودف مرور جمهرة من المواطنين لحظة التفجير، لكان عدد الضحايا أكبر بكثير. ومن حسن الحظ أنّ الأمور أخذت المنحى الذي أخذته، حقناً للدماء.

وبالنسبة إلى الجهة المنفّذة، من الباكر جداً الجزم بهويّتها، وأيّ تحديد مُسبق للمسؤولية بصيغة التأكيد هو نوع من رمي التهم جزافاً. لكن هذا الأمر لا يُسقط عرض الإحتمالات الواردة. ومنها مثلاً الحديث عن ضلوع إسرائيل بالعمليّة، علماً أنّ آخر تفجير إسرائيلي جدّي في الضاحية يعود إلى العام 2004، عندما جرى إستهداف المسؤول في "حزب الله" حسين صالح. ويمكن القول إنّ الحديث عن هذا الإحتمال يندرج أكثر في إطار تخفيف الإحتقان الداخلي. ولوّ كانت إسرائيل متورّطة فعلاً بشكل مباشر، لما تردّد "حزب الله" في الردّ فوراً على هذا الإعتداء الغادر، علماً أنّ إحتمال التورّط الإسرائيلي غير المباشر يبقى قائماً عبر أجهزة إستخبارية تهدف إلى ضرب الإستقرار في لبنان، حيث أظهر التعرّض لوزير الداخلية مروان شربل من قبل مجموعات غاضبة من المواطنين حجم الإحتقان الداخلي. ومن بين الإحتمالات الواردة، تورّط جهات "سلفيّة" تعتبر نفسها حالياً في معركة مفتوحة مع "الحزب". وإتجاهات التحقيق ستتجه بدون أدنى شك أيضاً إلى جهات لها مصلحة في إستفزاز "جمهور المقاومة"، ودفعه إلى القيام بردّات فعل عشوائية وغير منضبطة، بغية إثارة النعرات الطائفية والمذهبيّة أكثر فأكثر على الساحة اللبنانية، وربما للدفع إلى إستهداف اللاجئين السوريّين. لكنّ أصابع الإتهام الأقوى والأكثر منطقيّة في الظرف الراهن، تتجه إلى جهات أخرى خارجيّة، سبق لها أن أطلقت التهديدات علناً بضرب "حزب الله" في أيّ مكان، ردّاً على تدخّله العسكري في سوريا لصالح النظام. ومن الواضح أنّ الردّ على "الحزب" تدرّج من الصاروخين اللذين إستهدفا منطقة "مار مخايل" وشارع "مارون مسك" في أيّار الماضي، مروراً بالعبوتين اللتين إستهدفتا مواكب أمنيّة على طريق تعنايل وطريق زحلة في حزيران الماضي، وصولاً إلى إنفجار "بئر العبد" أخيراً. تذكير أنّنا كنّا قد حذّرنا في مقالات سابقة، ومنها مقال نُشِر في مطلع حزيران الماضي بإسم (هل تحمي إجراءات "حزب الله" الإحترازية "بيئته الحاضنة"؟)، من أنّ "الخوف الأكبر هو من حصول عمليّات تفجير أكثر منه عمليّات إطلاق صواريخ". وللأسف، إنّ هذا التخوّف الذي صار حقيقة واقعة، لا يزال قائماً حالياً، وفرصه اليوم هي أعلى من السابق، مع وجود نيّة أكبر بإلحاق أذى أكثر إيلاماً.

وفي الختام، من المعلوم أنّ الإنفجارات الغادرة، لا تُغيّر في قناعات أيّ فئة مستهدفة بها، أكانت جُمهور "حزب الله" أم غيره، وإن كانت تثير قلق وخوف البعض. ومن المُنتظر أن يتخذ "الحزب" تدابير أكثر تشدّداً بالنسبة إلى مسألة ركن السيارات في المناطق المحسوبة شعبياً عليه، إستكمالاً للتدابير التي سبق له أن إتخذها لمحاولة ضبط عمليّات إطلاق الصواريخ، إن على الضاحية أو على بعلبك. ومن غير الوارد حالياً أن يغيّر "الحزب" قراره الإستراتيجي بالتدخّل العسكري في سوريا، لا بسبب الضغوط السياسية المحلّية والإقليمية والدولية، ولا بسبب الصواريخ والتفجيرات التي تستهدفه. وهذا يعني أنّ كل الإحتمالات ستبقى واردة في إطار الصراع المفتوح على الأرض السورية، بامتداداته الإقليمية والدوليّة. ومن هذه الإحتمالات، المزيد من محاولات التفجير في لبنان، للأسف!