يقول دوركيهام في كتابه عن الظاهرة الاجتماعية التي هي «الانتحار» ان هناك، انواعا عدة من الانتحار. فهناك انتحار يمكن شرح مسبباته وهناك انتحار لا شرح له ولا يمكن تعليله وادراك منابع اسبابه وهو يسميه بالانتحار الغير مدرك Le suicide anomalique وهذا الذي يحدث في لبنان اليوم.

نداء الموت يعلو على صوت نداء الحياة. انه العبث بعينه l'absurde فهو لا يتولد من الغثيان la nausee ولا من قرف الوجود والفشل فيه واليأس من اوضاع الحياة، بل هو نوع من العمى والركض نحو الموت كما فعلت قطعان باينرج panurge عندما راحت تعدو وترمي بنفسها في النهر لتموت دون سبب بل تبعت بعضها بعضا حتى هاوية الانتحار لا تتوقف ولا تتراجع يدفعها فعل غرائزي اعمى. وهذا هو واقع حالنا اليوم في لبنان، فنحن نرمي بنفوسنا وبوطننا في هاوية الموت والانتحار بتبعية عمياء واقتداء اخرق.

عطلنا في وطننا معظم مؤسساته وغرقنا في اللهو كما يقول بسكال والرقص على ابواب الموت وتهديم مقومات الوطن خاصة الاقتصادية والانمائية والسياحية، والقضائية والدستورية، فافقرنا الناس واوصلناهم الى حدود اليأس ودفعناهم الى الهجرة فابتعد عنا فرح الوجود وبهجة العيش معا في وطن هو نعمة من السماء بطبيعته وخيراته ومياهه ومناخه وعبقرية وريادة ابنائه تحميه دماء شهدائه وصلوات الابرار والصديقين والقديسين والمساكين فيه الذين يخافون الله. وحده «الرجاء» يأتي من السماء. هذا «الرجاء الجديد» يطل علينا باشارات تحمل قوة النعمة ومن عمل الروح القدس الذي هو قوة الله الحاضر في الكنيسة والعالم والتي اقامت المسيح من بين الاموات وحلت في احشاء العذراء مريم التي تجسد منها المسيح وولد مخلصا وفاديا.

اما نحن فما زلنا نعيش هذا الملهاة كما يقول دانتي لمدة اربع سنوات ولم نجد قانونا للانتخابات وحتى لم نصحح سلم رواتب الناس او رحنا نصارع طواحين الهواء كما كتب سرفنتس، ولقد سمعنا جعجعة ولم نر طحينا. لذلك وبالرغم من هذا الواقع المظلم لن نأتي بسفر المراثي ومناديل المناحة والندب لنبكي - وعذرا من النساء - كالنساء وطنا لم نحافظ عليه كالرجال كما قالت ام زين العابدين لابنها الهارب من الاندلس.

نحن نؤمن ان يد الله مع لبنان وهي تكتب مستقيما على خطوط لولبية كما رأها النبي دانيال وهو في جب الاسد.

} ابواب الرجاء }

تكريس لبنان والشرق لقلب مريم العذراء يحمل له درع الحماية وقوة الحياة بفرح وخير وبركة وسلام. هذا الحدث له فعالية رمزية حقيقية انقاذية باستمرار وحماية كيانية وجودية بغطاء من السماء ووشاح مريمي يملأ لبنان بهاء ورجاء لان لحماية تأتي من حنان السيدة العذراء ملكة لبنان وهي الحامية والضارعة والمشيرة، والعرش الالهي. هي ام الحياة المباركة بنعم السماء. ارض لبنان وشعبه بكل طوائفه وقد جعل لها يوم عيد البشارة 25 آذار عيدا وطنياً مشتركا بين المسيحيين والمسلمين. تكريس لبنان لقب مريم هو سور النار الذي يحميه من التنين الفاغر الشديقين كما في سفر الرؤيا ليبتلعه في هذا الشرق المشتعل بالعصبيات والظلاميات والركض نحو الموت والفناء لاكل تفاهة الشر ويطرد من الفرلادوس الذي وهبه الله له.

مجد مريم المصطفاة النقية وردة الشارون وسوسنة الاودية ارزة لبنان ودالية الخير في البقاع وزيتونة الدافقة النعم، هو الذي اعطى للبنان الحماية فوقفت على المفارق والساحات حارسة ابواب الناس.

اذا كان لبنان في البدء هو قلب الله، كما هو الاسم في اللغات القديمة وصار مكرسا لسيدة لبنان منذ ايام البطريرك الحويك، اصبح اليوم مكرساً لقلب الام العذراء. يا لعظم هذه النعمة والبركة التي حلّت علينا في هذه الايام العصيبة.

} اعجوبة البابا يوحنا بولس الثاني }

هذه الاعجوبة التي قيل عنها انها «ستدهش العالم» بالحقيقة تعيد لنا وجه هذا البابا «القديس» الذي احب لبنان وقد اتى اليورم يعطينا اشارة جديدة او الوطن الذي كرسه البابا يوحنا الثالث والعشرون للعذراء، والذي اقام على احد تلاله البطريرك الحويك تمثال السيدة العذراء، سيدة حريصا، هذا البابا الذي قال للعذراء «انا لك بكليتي» هو الذي اقام من الموت السريري الطويل سيدة راحت في موت سريري وايقظها واعادها للحياة، ليلة تطويبه، ظهر لها وقال لها، قومي، سيقيم لبنان من هذا الموت السريري الذي يغرق فيه ليبقى كما قال عنه وطن «الرسالة» ويعطيه «رجاء جديدا» انه من السماء ينظر الى لبنان الذي احبه وصلى لكي يبقى وطن الحوار الحضاري والثقافي والروحي والعيش المشترك بين المسيحية والاسلام على اساس الاحترام والمحبة والاغتناء من لقاء الاخر بعيدا عن اية شهوة «قاينية» او «ذئبية» لنهشه والقضاء عليه «نحرا» واكل لحمه لانه كافر وافتراس قلبه وكبده وشرب دمعه بعد التلذذ بقتله والقضاء عليه، ناسيا ان اعدام الآخر هو عدمية رهيبة لنفسه ولذاته.

هذا هو جوهر الحركات التكفيرية والعصبيات البربرية الجديدة المتوحشة المتحجرة الحقيقة لنفسها فقط، مانعة عن الآخرين ان يعيشوا الحق والخير والجمال كما اوصى الله لهم. هؤلاء «الدعاة» هم شياطين العصور الحديثة.

اما باب الرجاء الاخر الجديد فهو وجه البابا فرنسيس الذي اتى بعد البابا العالم الموسوعي بندكتوس السادس عشر، هذا الوجه الاسيزي الكلمات والحياة، واليسوعي المعرفة والفكر اللاهوتي المنوّر. يعيش حالة رهبانية ببساطة وزهد واتضاع لان الكنيسة تكون شاهدة حيّة للمسيح عندما يعيش الشركة والمحبة والفقر والتجرّد كما قال السيد البطريرك الراعي في حياة مميزة بالزهد والتجرد والتنسك والبساطة والفقر الرهباني الكامل فتكون قلوبهم من ذهب وعصيهم من خشب وعلماء كماروني كما يقال.

وباب آخر من الرجاء هو من مملكة قيصر دم الشهداء قربان فداء وتضحية وشرف الجيش ووحدة افراده وبسالة وشجاعة قادته وضباطه وافراده والتفاف القوى الروحية والسياسية وقلوب الناس حوله. لذلك انا اؤمن بان الرجاء لن يخيّب وان كل نفس ترتفع ترفع العالم وان كل ظلام الدنيا لا يستطيع ان يطفئ نور شمعة واحدة. واننا لن ننتحر بل سنعيش ابداً في الرجاء.