يسمّونه الثُلْث الشيعي، ولكنَّ لكلِّ مذهبٍ ثُلْثَهُ. كلُّهم، كلُّ تكتُّلٍ منهم، كل حزب وكل مجموعة وفريق، يحتفظ لنفسه بثِلْثٍ معطِّل لتعطيل مصلحة الدولة في سبيل مصلحة الذات الفاحشة، وليس هناك من يسعى الى ثُلْث مُنْقذٍ بدل الثلث المعطّل.

عطّلوا الدولة، وعطّلوا الحكم والسلطة والحكومة والمجلس والإنتخابات والقوى الأمنية، ولا يزالون مستمرين في لعبة التعطيل ولم يبقَ شيءٌ غير عاطل أو معطّل إلا "أخلاقهم".

هذا التعطيل المعجل المكرّر والمستمر، يؤدي حتماً الى فراغ قاتل في السلطة، وفراغ السلطة هو النتيجة الحتمية لفراغ الرؤوس، والرؤوس الفارغة هي أقرب المساكن الى الشيطان.

كلهم يسيرون عكس المنطق وعكس التاريخ وعكس البرنامج العقلي، ولا نزال منذ سنة 1975 على الأقل نتقاتل على الأثلاث المعطّلة بمختلف أنواع الأسلحة: بالأسحلة الشرعية وغير الشرعية، وبالسلاح الناري والسلاح الأبيض، وبالسلاح الطائفي والسلاح المذهبي، ونتقاتل على النظام كما على الحكم والدستور، حتى إننا تقاتلنا على الصلاحية المذهبية للسلطتين التشريعية والتنفيذية، ويبقى أن نستدعي الشعب الى ميادين التحرير.

ومنذ سنة 1975 على الأقل ونحن نتغنَّى بالحروب، نشنُّها على أنفسنا، حروباً باردة، وحروباً ساخنة، وحروباً عبَثِّية وعشوائية، وليس لأحد فيها مغْنَم لا في الحياة الدنيا ولا في الآخرة.

حتى الغزوات القبلية التي نقرأ عنها في العصر الجاهلي كانت تتوخَّى مَكْسباً في سَبْيِ النساء والإبل والحصول على العشب والماء، وفي حروبنا نحن لم نَجِدْ قبيلة واحدة قد ظفَرتْ بناقَةٍ واحدة ولو عرجاء، أوْ سبيَّةٍ واحدة ولو شمطاء، كلنُّا يتمثّل بقول نابوليون: "إِنَّ من يخوض حرباً ولا يكون أمَلُ الإنتصار فيها خمسين في المئة على الأقل فهو مجنون" ومع هذا، فإنّ هذا المجنون خاض حرباً ضدّ روسيا على رأس ثلاثمئة وخمسين ألف جندي، وعاد منها بخمسين ألف جندي فقط، وأما الباقون فتَرَكهم جُثثاً في أرض الصقيع وأحياءً عند ربهم يُرزقون.

نتيجة حروبنا النابوليونية المتراكمة أصبح كل شيء عندنا عاطلاً ومعطّلاً، الدولة معطلة والسلطة معلّقة، والشرعية مضربة عن الطعام والحكومة إثنتان: حكومة برسم الزواج وحكومة برسم الطلاق.

والأمن سائبٌ يعلّم الناس الحرام، والقتل شائعٌ في تمرُّدٍ مسعور على تحريم الله وحرمة القانون، والشعب لعبت به شياطين السياسيين بما كان يفرّق بين الهند والباكستان، فالهندي يَعْبُدُ البقرة والباكستاني يأكلها.

مع دوّامة هذه الطاحونة الحمراء، أيُّ معنىً يبقى لتمثيل حكومي يراعي الحجم النيابي المضخَّم؟ كل الأحجام المضخَّمة مع انخفاض حجم الوطن وحجم الدولة وحجم الحكم، تصبح أشبه بالشيكات دونما رصيد.

ومع هذه الدوامة القاتلة لم يعد هناك من خلاص إلاّ بمجنون إيجابي يخترق الأسلاك الشائكة ويرمي أكياس الرمل في البحر، ولا أرى هذا المجنون الإيجابي إلا في الفريق الشيعي القادر بقواه السياسية والحزبية على اتخاذ المبادرات. إنه المطالَبُ بالتساهل حتى حدود التنازل من أجل تحقيق الثلث المنْقذ أيَّاً يكن الثمن، وإنها مسؤوليته التاريخية في مداواة العلّة بالَّتي كانت هي الداء، حتى ولو تمثَّل بأبي نواس، فهو يعرف كيف يقول للناس "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى".

*وزير سابق