عصا في اليد، حقيبة على الظهر، وحذاء مريح... قد يعيد هذا المشهد إلى ذاكرتنا الصورة النموذجية للحجاج القدامى الذين كانوا يتركون منزلهم لأشهر ليوفوا نذراً عليهم، وذلك بظروف صعبة سيراً على الأقدام أو على ظهر حمار أو حصان... ولم يكن أحد يدرك فعلاً إذا ما كانوا سيعودون يوماً ما أو إن صعوبة الطريق ومخاطرها ستمنعهم من ذلك.
إلا أن هذه الصورة التقليدية ما زالت تتكرر في أيامنا هذه، ومن أبرز الشهود على ذلك كاتدرائية سانتياغو دي كومبوستيلا في مقاطعة "غاليسيا" شمالي إسبانيا، التي يتوجه إليها إنطلاقاً من مختلف البلدان الأوروبية، سيراً على الأقدام أو على الدراجات الهوائية أو على الأحصنة، مئات آلاف الحجاج سنوياً.
دوافع متعددة نحو هدف واحد
تتعدد دوافع الحجاج وانتماءاتهم الفكرية والدينية والحضارية، إلا أن الرابط الذي يجمع بينهم حتماً هو المجهود الذي يقوم به كل منهم للوصول إلى الهدف. لذلك غالباً ما تنسج الصداقات على الطريق بين أشخاص من بلدان مختلفة، أو حتى ينتهي المطاف بالبعض إلى الزواج... فيما يكتفي البعض الآخر بالتمتع بلذة هذه التجربة المميزة مستفيداً من كل لحظة.
وخلال تواجدنا في نقطتين أساسيتين من طريق "سانتياغو دي كومبوستيلا" في منطقة "نافارا" الإسبانية وتحديداً في بلدة "بوينتي لا رينا" حيث تتلاقى مختلف الطرق الأوروبية في طريق واحد، تمكنا من التحدث إلى عدد من الحجاج. بعضهم أتى فقط لغايات سياحية للتمتع بجمال فن القرن الـ18، فكارولين الآتية من كندا أكدت أنها لطالما اعتقدت أن طريق سانتياغو هي بمثابة أمر "يجب القيام به"، مشيرة إلى أنها "قررت اتخاذ بعض الوقت الحرّ للسفر إلى أسبانيا والنظر إليها بمنظار مختلف عن ما تقدمه السياحة العادية".
البعض يفضّل أن يذهب مع مجموعة من الأصدقاء، كالشبان الهولنديين الذين التقيناهم وأوضحوا لنا أنهم، وببساطة، يسيرون كل سنة على الطريق المؤدية إلى كومبوستيلا "لأنهم يحبون ذلك"، فيما أشارت تشيتشي الآتية من سويسرا إلى أنها تفضل أن تمضي رحلتها بمفردها "لكي تسير على نمطها".
وفيما تفتش مجموعة من الحجاج "على أهداف روحية"، أقصى ما يتمناه البعض الآخر هو "راحة البال"، وآخرون يأتون فقط "لأن زوجتهم طلبت منهم ذلك" مثل إدوار الذي قدم من باريس برفقة امرأته ليختبرا هذه التجربة سوياً بعد سنوات من الحياة الزوجية.
على الطريق، وتحديداً في منطقة التقاء الطرقات حيث تواجدنا، من السهل رؤية الكبار والصغار، الرجال والنساء، النحيلين والثمينين... أشخاص من كل الأجناس والألوان. فكيف بدأ كل ذلك وكيف اكتسبت هذه الطريق شهرة عالمية في قرننا هذا بعد أن كانت محصورة في الحجاج الأوروبيين؟
... منذ الـ950 للميلاد
أسئلة عدة طرحناها على خيسوس تانكو، الأستاذ المتخصص في طريق سانتياغو دي كومبوستيلا في جامعة نافارا، التي تعتبر إحدى النقاط التي يتوجه إليها الحجاج لشرب بعض الماء والإستراحة، وهي تفتح أبوابها أيضاً لكل الأكاديميين الذين يريدون إجراء أبحاث حول هذه الطريق وتشجع طلابها على ذلك كونها تمرّ به.
وفي هذا الأطار، شدد تانكو على أن "كاتدرائية مار يعقوب (المعروف بالإسبانية بـ"سانتياغو")، هي موقع مهم جداً لإسبانيا، لأوروبا، وللعالم المسيحي بكامله"، شارحاً أن "القديس يعقوب ابن الرعد، أحد رسل المسيح الـ12، بشّر بالإنجيل في إسبانيا، ووصل إلى "غاليسيا" بسهولة بسبب الطريق الرومانية التي كانت تصل إلى هناك". واعتبر أنه "من حظ إسبانيا أن يكون لديها رسول، وهذا تقليد قديم جداً ونعتزّ به"، مشيراً إلى أنه "ورغم أن هذا التقليد إنتقل من جيل إلى جيل، إلا أن قبر الرسول لم يتم اكتشافه إلا عام 820، ولم يتم تأكيد هذا الأمر من قبل الكنيسة إلا في القرن التاسع عشر". وقال: "لا نعرف حقاً متى بدأت رحلات الحج، إلا أن أول رحلة موثقة تعود لأسقف منطقة "لو بوي" عام 950".
ورغم أن الأهمية الدينية لهذا الموقع هي الطاغية، إلا أن الطريق تحمل إرثاً ثقافياً كبيراً. وعندما نتحدث عن طريق سانتياغو إنما نتحدث عن عدّة طرقات تنطلق من مختلف البلدان كما أشرنا، محددة ومخططة وتحمل علامة حجاج سانتياغو لكي لا يضيع أحد طريقه وتصل كلها إلى قبر القديس يعقوب.
198 ألف حاج للعام 2012
وفي هذا الإطار، شرح تانكو أن الجامعة في نافارا تقوم بنشاطات مع متخصصين للإضاءة على مختلف الجوانب المهمة للطريق: "فمع علماء البيولوجيا قمنا بدراسة عن أنواع النباتات الموجودة، ومع المهندسين عن طريقة بناء المنازل التقليدية، ومع علماء الإجتماع حلقات نقاش وحوار مع أهالي البلدات التي تمر بها الطريق"، مشبهاً طريق "سانتياغو" بنوع من "طريق عام" تمرّ بها بلدان عدّة.
وأكد تانكو أن عدداً كبيراً من الأشخاص يرتدون إلى الدين المسيحي بعد إنهاء الحج، فيما البعض الآخر يقوم بخطوة إلى الأمام نحو القيم الإنسانية، مشدداً على أن أحدا لا يذهب إلى سانتياغو ويعود وكأن شيئاً لم يحدث. وقد روى في هذا الإطار عدداً من الخبرات التي حدثت مع أصدقاء له.
وتجدر الإشارة إلى أن الملوك الذين حكموا "نافارا" خططوا الواحد تلو الآخر الطريق بشكلها الحالي، محفزين بناء مستشفيات وأديرة وكل ما يتعلق بالفن الرومنسي على طول الطريق، الأمر الذي أدى إلى ما وصلنا إليه اليوم: على طول الطريق أماكن مخصصة لراحة الحجاج، وأماكن أخرى مخصصة للنوم، إلى جانب الكنائس المفتوحة بشكل دائم لإستقبالهم، ومستشفيات ومستوصفات... إلخ.
ورغم أن أعداد الحجاج تراجعت بشكل ملحوظ في القرن السادس عشر بسبب الأمراض وبسبب الحروب الدينية وبروز البروتستانتية، فإنه، ومع إعلان البابا ليون الـ13 أن هذا القبر هو حقاً قبر القديس يعقوب في القرن التاسع عشر، عاد الحجاج إلى الطريق. إلا أن العودة الفعلية إلى الحج نحو كومبوستيلا بدأت في القرن العشرين، من خلال إنشاء جمعيات "أصدقاء طريق كومبوستيلا" عام 1962 في باريس ومن ثم في مختلف بلدان أوروبا.
ونشير إلى أن مدينة "سانتياغو"، المصنفة كإرث ثقافي للإنسانية، استقبلت عام 2012 أكثر من 198 ألف حاج حصل كل منهم على شهادة خاصة بالحجاج بسبب اجتيازهم 100 كم سيراً على الأقدام أو 200 كلم في الدراجة الهوائية، هذا إلى جانب آلاف الأشخاص الذين يزورون المقام بالسيارة أو بالنقل العام أو الذين يعبرون مسافة أقصر من 100 كم سيراً مما لا يؤهلهم الحصول على الشهادة، بحسب تانكو الذي أوضح أن 50% من الحجاج هم إسبان فيما الـ50% الآخرون هم من بلدان مختلفة.
وإذ أكد أن ليس كل من يحج على هذه الطريق هو مسيحي، أشار إلى أن "هذا لا ينفي حقيقة أن الأمر بحد ذاته هو تقليد مسيحي".
إنها حقاً ظاهرة غريبة في عالم غربي يبعد كل يوم عن كل ما هو روحي ويركز أكثر فأكثر على الرفاهية الآنية. وقد تكون الأعداد الكبيرة للحجاج اليوم مؤشر إلى حاجة هذه المجتمعات لتجربة وجدانية مختلفة عما يعرض عليها كل يوم.