المنطق يقول إن سحب سريّة الهندسة والبناء التركيّة من لبنان مرتبطٌ بحكاية الطياريْن، ولكن لـ “اليونيفيل” رأياً مغايراً: فتركيا اتخذت قرارها قبيْل فجر الجمعة ولا علاقة للحادثة بقرار رسمه الأتراك في كواليس نيويورك وخططوا له منذ فترةٍ.

20 يومًا أو أقل تفصل سريّة متطوّعة عن مغادرة لبنان “لإجراءاتٍ روتينية”... هي تلك الفرضية التي تصرّ قيادة “اليونيفيل” على ترويجها متسلّحةً بأكثر من عامل: أولاً ورود قرار من نيويورك بسحب السريّة في السادس من آب أي عملياً قبل خطف الطياريْن بثلاثة أيام. ثانياً، العمل في إطار قوات حفظ السلام تطوّعي وبالتالي يحقّ لأي دولةٍ أن تقدِم على سحب كتيبتها متى شاءت، ومع ذلك يبقي الأتراك على قوّتهم البحرية، ولو كان قرار السحب الجزئي مرتبطًا بحادثة الطياريْن لأقدمت تركيا على الانسحاب كلياً من “اليونيفيل” إذ لا شيء يمنعها من ذلك.

حقيقة الانسحاب

تتخذ فرضيّة “اليونيفيل” التبريرية تلك اتجاهاً معاكساً تمامًا لما يرصده مراقبون يؤكدون أن الانسحاب التركي المفاجئ ليس وليد العبث بل ثمرة خطف الطياريْن من جهةٍ، والتضييق اللبناني على تركيا من جهةٍ أخرى في ما يتعلق بملف المخطوفين، لا بل حشرها على مستوى إلقاء الكرة في ملعبها سواء من قادةٍ رفيعي المستوى في الدولة، مفاوضين أو غير مفاوضين، أو حتى من الأهالي أنفسهم. فما حقيقة الانسحاب التركي المفاجئ من “اليونيفيل” والإبقاء على 58 جندياً فقط؟

مجرّد تهويل

في حال لم يكن الانسحاب التركي مرتبطاً بحادثة خطف الطياريْن، فإن وسائل الإعلام التركية والتلويحات لا تترك مجالاً للشكّ بأن حكومة أردوغان تتجه الى تغيير أولي غير جذري في آلية تعاملها سياسيًا ودبلوماسياً واقتصادياً وسياحياً مع لبنان. ذاك التغيير قد يكون مجرّد تهويلٍ بغية استعادة الرهينتيْن تمامًا كما قد يكون تصعيداً عززه اتصالٌ “تحذيريٌّ” من وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو أمس. كلّ تلك المؤشرات تدفع بمصادر مطّلعة الى التشديد على أن “الأيام القليلة المقبلة قد تشهد قراراً تركياً بالانسحاب الكلي من اليونيفيل خصوصًا في حال لم يتم الإفراج عن الطيّاريْن، وبالتالي يثبت حينها أن سحب الفريق الهندسي ليس سوى خطوة أوليّة تحذيريّة ستليها خطواتٌ أكثر تصعيداً قد يكون أبرزها على مستوى القبعات الزرق مغادرتها بلا سؤال أو أعذار”.

“لا يؤثر على عملنا”

كل تلك التحليلات لا تجد طريقها الى “اليونيفيل” التي جدد الناطق الرسمي باسمها أندريا تينانتي لـ “​صدى البلد​” نفيه أن “تكون هناك أي علاقة بين قرار سحب سرية الهندسة والبناء وخطف التركيَّيْن”، مشدداً على أنه “إجراءٌ عادي وروتيني، ويحصل في أكثر من مرة أن تُقدِم دولة على خفض عديد عناصرها أو زيادته. ولكن ما هو أهم من ذلك أن هذا الانسحاب لن يؤثر على عمل “اليونيفيل” بل هناك حرصٌ تام على الحفاظ على مهمّتها لتنفيذ القرار 1701 والاضطلاع بالمسؤوليات المنوطة بها”.

مهمّة محصّنة

ولفت تينانتي الى أن “اليونيفيل حصّنت مهمتها بإجراءاتٍ تضمن عدم تبدّل آلية عملها ومساره في حال تعرّضت لانسحاباتٍ من هذا القبيل”. وشدد على أن “قرار السحب وردنا من نيويورك في السادس من آب. هذا ولا يمكن أن ننسى حقيقة أن قرار أي دولة مشاركة في اليونيفيل خفض عديد كتيبتها ليس ابن لحظته بل يحتاج الى أيام ركوناً الى آلية العمل بين الدولة نفسها ونيويورك، وفي الحالة التركية لا شكّ أنه كان هناك تنسيق لأيام بين تركيا والأمم المتحدة قبيل الإعلان عن هذا القرار، وربما كان الحديث عن الانسحاب الجزئي يدور منذ تموز”.

انسحاباتٌ سابقة

ولكن هل يقود ذاك الانسحاب الجزئي الى انسحاباتٍ إضافية أو في أحسن الأحوال الى انسحابٍ كلي للكتيبة التركية؟ وهل يمكن لهذا القرار أن يُتخذ عشوائياً في أي زمانٍ ترتأيه الدولة المشاركة؟ يجيب تينانتي: “لليونيفيل مهمة محددة تحت جناح مجلس الأمن والقرار 1701، ونحن موجودون في كل العالم ونعمل وفق الآلية نفسها، لذا لا يمكن أن نربط الانسحاب بقضية الخطف”. وأكد أن “قرار زيادة العدد أو خفضه يعود الى كلّ دولة على حدة، وهذا ما حصل فعلاً في الكتيبة الإيطالية التي انخفض عديدها من ألفين الى ألف ومثلها إسبانيا وفرنسا، وفنلندا سحبت كتيبتها في العام 2008 وأعادتها في العام 2011، تمامًا كما سحبت البرتغال سريّة الهندسة العام الفائت. اليوم لدينا 37 دولة مشاركة ولم تبدِ أيٌّ منها رغبةً في الانسحاب من قوات حفظ السلام”.

7 سنوات... وصدفة؟

إذاً 7 سنواتٍ من المشاركة في “اليونيفيل” قضت عليها تركيا بين ليلةٍ وضحاها بسحب سريّة قدّمت الكثير على ما تؤكد قيادة القبّعات الزرق. 7 سنواتٍ تزامنت نهايتها في القاموس التركي مع اختطاف طياريْن تركيَّيْن. ربما هي صدفةٌ محض بعدما استشعرت تركيا بـ “السخن” من ملف المخطوفين التسعة، وربما هي خطوةٌ لم تكن سوى وليدة لحظتها كإنذار “ناعم” للدولة اللبنانية لتكثيف جهودها لإطلاق الطيّاريْن. أياً كانت الفرضيّة الصائبة، الأتراك لم يغادروا “اليونيفيل” نهائياً... قد يفعلون قريباً وقد يفكّرون مئة مرّة قبل الإقدام على خطوةٍ مماثلة قد تكلّفهم عداءً جديداً مع دولةٍ جديدة حكومة أردوغان في غنى عنه اليوم بالذات.