فضّ الاعتصام واندلعت الإشتباكات.. هي الثنائية التي تحكم الواقع المصري حالياً.

لم يتوقع المراقبون للشأن المصري أن تؤول الأمور إلى ما وصلت إليه من ثورة، فإنقلاب، فثورة في غضون عامين،لتبعث برسالة مفادها أن مصر العظيمة تعيش أعظم إرباكاتها وأصعب مخاض لولادة حكم مدني ديموقراطي حديث ظن العالم أن مصر قد أسست له بعد ثورة يناير 2011، ليعود هذا المشهد الدموي اليوم لينبىء بأن مصر لم تركن بعد، وإن التأرجح بين حكم الإخوان تارة وحكم العسكر تارة أخرى لم يحسم بعد، وهذا التصارع إنما يجري على دماء الأبرياء التي تسيل نصرة لهذا الطرف أو ذاك.

«انقلاب» المشهد الأخير بعد الإطاحة بحكم الرئيس «المنتخب» الإخواني محمد مرسي من قبل المؤسسة العسكرية، وذلك بعد مضي حوالي عام من توليه السلطة والتي لم تكن على أقل تقدير «ناجحة» بالمقاييس السياسية والاقتصادية والأمنية, والتي أيضاً أبرزت ضعف وقلة خبرة «الإخوان» في إدارة شؤون البلاد بعدما ظلوا في المخابىء والسجون أو المنفى لعقود طويلة حتى استلموا في لحظة «فراغ» سياسية سلطة حكم أكبر بلد عربي ومحوري في المنطقة، معتبرين ذلك حقاً "مكتسباً" لنضال عقود من التنكيل والتعذيب والإقصاء الذي تعرضوا له ومعوّلين على قاعدة «جماهيرية» وشعبية من أوساط اجتماعية معينة إستفزها الحكم "البرجوازي" لآل مبارك، فكان هذا الاستهتار والنشوة بالتعاطي مع شؤون الدولة ولعب دور «الديكتاتور» البديل متناسين أن وعي الشعوب العربية قد تغير وتحرر وأنجز ثورات وتغيرات أطاحت بأعتى الديكتاتوريات العربية حيث بات القصاص صعباً والحساب عسيراً ومباشراً.

أخطاء الإخوان بالحكم «قصير الأجل» كانت فادحة, ولاحظها الشعب المصري والعالم بأسره وبسهولة، وهو ما حقق "نزع" هذه الشرعية عن حكم الإخوان «وبسهولة» أيضاً، حين قرر المناوئون لحكمهم جمع التواقيع على وثيقة «إرحل» قدرت بالملايين ونزلت إلى الميادين والساحات واعتصمت ولم تتراجع إلاّ بعد «إلقاء» القبض على الرئيس مرسي وعزله، ووضعه في إقامة جبرية وتمديد حبسه تحت ذرائع وتهم لم تكن واضحة لكثيرين، إلاّ أنها انسحبت على الواقع المصري ليصبح الرئيس المنتخب «معزولا»، وليتقدم إلى واجهة السلطة المجلس العسكري أو القيادات العسكرية من جيش وشرطة كانت قد تم «تهميشها» «وعزلها» أيضاً من قبل مرسي لينفرد «بأخونة» الحكم وليزيح بذلك منافساً قوياً له، ألا وهو المجلس العسكري، الذي كان قد سهّل له عملية الوصول إلى سدّة الرئاسة أو على الأقل وفّر له الغطاء لذلك، فها هو ينقلب المشهد من جديد ويتقدم وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي ليتلو بيان «انقلاب أبيض» باسم الشعب والجماهير الغاضبة يعزل مرسي من منصبه ويختار رئيس مؤقت للبلاد وهو عدلي منصور أقسم اليمين المؤقت أيضاً خلف «قبعة عسكرية» جعلته يبدو على صورة «بوتين» وبديله مدفيديف في روسيا!.

استذكار الماضي القريب هو أمر ضروري، لكي نتفهم الواقع المرير الذي تحياه مصر من انعدام الرؤية وتخبط المسار وغموض المصير، بعدما وصل سفك الدماء والانقسام الحاد في الميادين والساحات إلى ما وصل إليه من تخبط انسحب أيضاً على الرؤية الغربية والأميركية تحديداً لهذا الواقع الذي تحول من تواطؤ غير معلن على" نهاية" حكم الإخوان، وترحيب حذرٍ أيضاً بثورة «العسكر الشعبية»، إلى تنديد وتهديد بما يجري حالياً من قمع وبطش تعاطت به القوى الأمنية مع فضّ الاعتصامات لمناصري «الإخوان»، وسقوط مئات القتلى نتيجة هذا الإفراط بالقوة.

لقد نجح الإخوان «بجرّ» القيمين على الحكم مؤقتاً في مصر, الى استخدام العنف وتوريطهم بارتكاب «مجازر» بحق مدنيين «عزّل» - حسب مصادر الإخوان- والتي روّجت لهذا المشهد دولياً وإنسانياً وحصدت تعاطفاً واضحاً من قبل الدول الأوروبية والولايات المتحدة ومجلس الأمن، وأظهرت ما أسمته «وحشية» النظام بالتعاطي مع «الأداء» السلمي والحقوق المشروعة لكل الشعوب في التعبير عن مطالبها، فربحت بذلك جولة مهمة أمام «المجتمع» الدولي، من غير المعلوم لغاية الآن قدرة الإخوان على استثمارها.

مصر الآن تعيش انقساماً حاداً يطال مجمل الشرائح والفئات الاجتماعية والسياسية في صورة «شبه» حرب دائرة في الشوارع وتنتقل في المحافظات وتحت قانون إعلان حالة الطوارىء التي عانى منها الشعب المصري لسنوات كثيرة جعلت أحكاماً ورقاباً تُزهق تحت هذا العنوان، فما أشبه البارحة باليوم، طوارىء وإرباك سياسي شديد، وصل حدّ تخلي أحد قيادات ورموز الثورة وهو محمد البرادعي، عن منصبه وتقديم إستقالته احتجاجاً على تعاطي العسكر مع طريقة فضّ الاعتصام، وهو السبب المعلن حتى الآن، وهو يدلل على مأزق سياسي تعاني منه الثورة ورموزها والتي تحاول فرض رؤيتها على الآخرين إنسجاما مع مصالح سياسية خاصة.

هي أخطاء تُرتكب بالجملة ومن كل الأطراف، العسكر وتعاطيه مع المعتصمين، «الإخوان» «وتعنتهم» «وتوريط» الأطفال والنساء بمشروعهم «كدروع بشرية»، والنخبة المثقفة الغائبة عن «الصورة» المرتبكة، و"تشرذم" قيادات الثورة والمعارضة لأهداف ومصالح شخصية، كلها عوامل تدعو إلى عدم التفاؤل بما ينتظر مصر بالمقبل من الأيام.

هي مصر التي اختبرت كل أنواع «الحكومات» بتاريخها العظيم الزاخر بالحضارة والتراث والتاريخ والدين والانقلاب والثورات، ها هي اليوم تقف حائرة بين «انقلاب» جماهيري عسكري لجنرال يحقق شرعية الشعب، وبين رئيس «منتخب» «معزول» «وشرعي» أيضا يتغنى بوصوله إلى الحكم بأصوات ملايين الناخبين.

هذه الملايين من الأصوات التي تبعثرت بين نظريتي «الشرعية»: شرعية الإنتخاب من جهة، «والانقلاب» «الشرعي» من جهة أخرى، إنما ينقل صورة كاريكاتورية «لكوميديا» متصادمة وسوداء محزنة في مصر، يموت فيها البطل في النهاية.. وتموت فيها الديموقراطية والحكم "المدني" الرشيد!