لا شك أن الرئيس الإيراني الشيخ حسن روحاني كان نجم اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي اختتمت أعمالها منذ أيام في نيويورك حيث كانت الأضواء مسلطة عليه في خطاباته ولقاءاته واتصالاته وآخرها الاتصال الشهير بينه والرئيس الأميركي باراك أوباما والذي قيل الكثير عمن بادر به لكن هذا الاتصال الذي يشكل حاجة مشتركة للبلدين نظراً لللأزمات المشتركة وملفات الصراع الكثيرة التي يلعب كلا البلدين فيها دوراً أساسياً لم يستطع أن يؤسس لحسم أي منه لصالحه أو إخراج الآخر من رسم معادلاتها.

إلا أن الوضع المتأزم الذي تمر به المنطقة وتحديداً الوضع في سورية والتطورات الأخيرة فيها والتي وصلت حدّ إعلان الحرب «أميركياً» عليها ما فتح احتمالات حريق كامل في المنطقة تم تداركه في اللحظة الأخيرة عندما أدركت الأطراف المتصارعة في سورية بأن «العدوان» لن يحسم الحرب لصالح أي فريق على آخر بل على العكس سترهق كل الأطراف وستخلق مزيداً من التعقيدات في بؤر أخرى من المنطقة وربما العالم.

إذن نجح الرئيس الإيراني ودبلوماسيته المتمثلة بوزير خارجيته محمد جواد ظريف بصياغة حملة إعلامية ناجحة جداً كرست خطاباً جديداً وصورة مختلفة كسرت صورة الجمهورية الإسلامية النمطية لسنوات طويلة تزامنت مع وصول الإصلاحيين إلى سدة الرئاسة في إيران وخطاب الانفتاح الذي أطلق من طهران تجاه الدول المجاورة والغربية وإشارات التطمين حول البرنامج النووي السلمي لإيران فكانت هذه المؤشرات صافرة البداية لإطلاق حوار حقيقي بين ما يسمى بداعمة «محور الشر» و»الشيطان الأكبر» والذي لا يفترض أن يدفع إلى الإفراط في التفاؤل بالتوصل إلى تفاهم استراتيجي دونه عقبات كثيرة ومسار طويل إنما جلّ ما يمكن توقعه هو تفاهمات تكتيكية تخدم مصالح واحتياجات الطرفين في هذه المرحلة.

لقد أعلن وزير الدفاع الإيراني الجنرال حسين دهقان بأن بلاده لن تقبل الدخول بأية مفاوضات كـ»طرف ضعيف» حيث أنها مستعدة للتفاوض وهي في قمة العزة والاقتدار وهي ترجمة لما يشاع حالياً في إيران عن «المرونة البطولية» التي توسم العلاقات الخارجية الإيرانية حالياً والتي تواجه بقدر كبير من الحذر والتوجس من قبل «إسرائيل» وحلفاء اميركا في المنطقة والذين يحاولون صد كل محاولات التقارب بين الدولتين والحؤول دون حدوث أية صفقة قد تغير وجه المنطقة وتطيح بآمال الدول الطامحة في الريادة وقيادة المنطقة واستغلال ثرواتها.

إلا أن المتابعين للشأن الإيراني الداخلي يدركون بأنه لا يمكن وضع رهان أميركي على تغييرات جذرية في السياسة الإيرانية حتى ولو تغيرت وجوه الحكم حيث أنها ليست المرة الأولى التي يتولى الإصلاحيون الإدارة فيها ويطلقون خطابات مرنة ومنفتحة تكون - حاجة داخلية لتمرير أزمة ما -والتي يبدو أن الوضع الاقتصادي الضاغط والعقوبات الثقيلة المفروضة على طهران إحدى أهم العناوين فيها فقد قدرت الأرصدة الإيرانية المجمدة في البنوك الأميركية بحوالى 100 مليار دولار تحتاجها إيران بالكامل لتغطية تكاليف برنامجها النووي الذي يستنزف معظم ميزانيتها والتي تعول عليه طهران الكثير بإنتاج مصدر للطاقة البديلة ويؤهلها لتصبح منافساً اقتصادياً مهماً في المنطقة وهو ما يشكل مصدر قلق آخر لدول الخليج والجوار وربما العالم.

إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم بعد موجات التفاؤل التي سادت حول كسر الجليد الأميركي الإيراني وانعكاساته على الوضع في المنطقة يستتبع التساؤل عن مدى الحاجة والمكاسب المتوقعة لكلا الطرفين من إجراء «حوار» حول قضايا خلافية شائكة عدة علماً أنها ليست المرة الأولى التي يلتقي فيها الطرفان - ولو بشكل غير مباشر- فقد سبق وأن أجريا محادثات حول العراق وأفغانستان وكان تعاوناً مثمراً حينها تم تقديره وفق حسابات كلا الطرفين. أما الآن فإن الصورة تبدو مختلفة أو أصعب على الجانب الأميركي حيث أن صورة الرئيس باراك أوباما المتردّد والضعيف كما يوصف قد اهتزت لدى حلفائه وفي الداخل الأميركي بعد أزمة الكيماوي السوري والتنازل الذي قدّمه عبر تراجعه عن تنفيذ عدوانه العسكري ضد سورية والعودة إلى سجالات مجلس الأمن والقرارات الدولية والفيتوات الروسية والصينية ما أتاح للنظام السوري أن يلتقط أنفاسه ويعيد ترتيب أوراقه ويطرح شروطه لعقد مؤتمر «جنيف2» إضافة إلى النكسة المالية التي تعاني منها الخزينة الفيدرالية الأميركية والتي تجعل أوباما رهينة لها وربما رهينة لمن يمتلك مقدرات المال والنفط.. لدعمه!.

أما في المقلب الآخر فإن إيران تبدو قوية ومتماسكة سياسياً وعسكرياً فقد استطاعت التقدم بقوة وتحقيق مكاسب إقليمية هامة في الكثير من الدول التي تحاول اميركا وحلفاؤها الخليجيون العبث بها واستطاعت الصمود لمواجهة الحروب المتعاقبة التي شنت على الدول الحليفة معها في المنطقة ما جعلها تنجح بانتزاع قطبيتها ودورها الإقليمي الحاسم سواء في لبنان والعراق أو سورية مقابل سلسلة الإخفاقات التي منيت بها الولايات المتحدة في تلك الدول بالذات.

ورغم كل المؤشرات السابقة يبدو الحديث عن صفقة أميركية إيرانية غير واقعي ومبالغ به في ظل الخلافات الجذرية والملفات الشائكة بين البلدين سواء سياسية واقتصادية و»نووية».. لكنها قد تدل على حاجة متبادلة تحاول إيران من خلالها استعادة دورها كـ»ضابط» سيادي في الخليج بدل «الشرطي الأميركي» المعروف تاريخياً منتهجة سياسة مستقلة ما يجعل من الصعب على الولايات المتحدة الحفاظ على ميزان القوى الإقليمية خصوصاً في ظل أزمات العالم العربي التي تحاول إيران ان تحجز مكاناً لها في قيادتها مستندة إلى العبر التي حصلت عليها الولايات المتحدة بأن ثمن الحروب أكبر من نفعها وأن قرارات شنها «سهلة».. إلا أنه لا يمكن ضمان الخروج منها بسلام.