لا شك في أن العلاقات المصرية ـ الأميركية تمر بأدق وأحرج مراحلها منذ سبعينات القرن الماضي عندما أبرمت مصر بزعامة أنور السادات إتفاقية السلام مع «إسرائيل» وصارت تبعاً لذلك حليفة للولايات المتحدة تربطهما علاقة استراتيجية استتبعت تقديم مساعدات عسكرية واقتصادية بلغت ملايين الدولارات واحتلت بذلك المرتبة الثانية بعد «إسرائيل» من حيث قيمة المساعدات والمعونات الإقتصادية. وقد استمر الامر على هذا المنوال حتى عهد الرئيس السابق حسني مبارك حيث بلغ التنسيق أشدّه بين البلدين في ملفات كثيرة تتناول الأمن الإقليمي ومحاربة الإرهاب وصياغة مبادرات للسلام بين الفلسطينيين و«الإسرائيليين» والمساعدة بصياغة سياسة شرق أوسطية تضمن لـ «إسرائيل» أمنها الإقليمي وللولايات المتحدة مصالحها الجيوستراتيجية والاقتصادية إلى أن حدثت ثورة 30 يونيو في مصر. يومها نزل الملايين من المصريين يطالبون بعزل مرسي من الرئاسة احتجاجاً على فشل الإخوان في إدارة السلطة بعد مرور عام على توليهم دفة الحكم في مصر ..فكانت صفعة قوية تم توجيهها للتجربة الإخوانية في الحكم وقد انتشرت تداعياتها في بعض دول» الربيع العربي» إلا أن الموقف الأميركي من المستجدات المصرية كان مربكاً ومتذبذباً. فمن جهة لم يستطع التغاضي عن مشهد الملايين في الساحات ينادون بعزل الرئيس مرسي فإذ بالولايات المتحدة تخسر الرهان على حكم لم يصمد سوى عام في دولة مركزية وحليفة إستراتيجية مثل مصر وفي المقابل فشلت بكبح طموح جنرال صاعد هو عبد الفتاح السيسي الذي أعاد صورة الحماسة للشعوب الطامحة للديموقراطية والتمدن الحقيقي والرافض للإبتزاز والتنازل عن كرامة مصر وقرارها الحر كما قال حتى ولو كان الثمن ملايين الدولارات تبدو مصر بأمس الحاجة لها خصوصاً في ظل ما تواجهه من هجمات إرهابية تهدد أمنها واستقرارها وتضعها في دوامة العنف والإرهاب..

لقد اعتبر البعض قرار الإدارة الأميركية تعليق المعونات الإقتصادية والعسكرية لمصر بإنها رسالة رمزية أو ضربة محدودة تود من خلالها الولايات المتحدة المأزومة مادياً ايضا ـ كما ادعت أن تلزم القيادة العسكرية المصرية بتنفيذ ما أسمته خارطة الطريق التي وضعتها بإجراء الإنتخابات الرئاسية والنيابية في فترة مبكرة يتم بعدها تسليم السلطة إلى رئيس منتخب على أساس ديموقراطي. وبهذا تحافظ الولايات المتحدة على صورة حامية الحريات والديموقراطية في العالم ...

أما بالنسبة للداخل المصري فقد بدت كدولة مستبدة تحارب الشعب المصري بأمنه ولقمة عيشه ومحاولة كشف الجيش المصري في حربه ضد الإرهاب في سيناء وغيرها من الخواصر الرخوة التي تشكل حواضن إيجابية ومنابع للإرهابيين داخل مصر مستهدفة قوات الجيش والشرطة تحديداً.

ورغم كل ما تم تداوله في الآونة الاخيرة عن قيمة المعونات المقطوعة عن مصر فإن قيمتها الفعلية قد انخفضت تباعاً منذ سنوات طوال بفعل التضخم من جهة والتضييق على نوعية أنظمة السلاح المسموح بشرائه لتسليح الجيش المصري بطريقة تضمن استمرار التفوق العسكري للجيش الإسرائيلي في المنطقة ناهيك عن ان مبلغ 1.3 مليار دولار المخصص لشراء المعدات والخدمات العسكرية والذي ظل ثابتا منذ عام 1984 حتى عام 2011 قد انخفضت قيمته الشرائية إلى النصف فضلاً عن أن حجم المساعدات الإقتصادية قد انخفض إلى 250 مليون دولار سنوياً منذ عام 1998 .

في ظل التجاذب الذي تتعرض له العلاقات الاميركية المصرية يبدو الدور الإسرائيلي غير بعيد عنها وقد يكون المعنيّ الأول بها وخصوصاً في ظل اتفاقات كامب دايفيد الموقعة مع مصر والتي بسببها تم دعم النظام المصري لأكثر من 3 عقود بمعونات إقتصادية وعسكرية وهو ما حدا بـ «إسرائيل» لأن تدعو الولايات المتحدة إلى الحذر من هذه الخطوة ولكنها لم تصل لدرجة الخوف من تعليقها لأن دون هذه الخطوة عقبات وتحديات كثيرة لا تبدو مصر مستعدة لها على الاقل في الوقت الحالي وفي ظل التحديات الامنية التي تواجهها وحرب عصابات مسلحة تتلقى الدعم الخفي من أجهزة مخابرات غير بعيدة عن بصمات «إسرائيل» تريد إلهاء القيادة العسكرية عما يجري في الداخل ومساعدة مشروع إخواني دعمته حليفتها الولايات المتحدة بكل قوة منذ بدايته ولغاية سقوطه السريع مقابل حكم العسكر «المتمدن» والذي تنظر إليه الولايات المتحدة وحليفتها «إسرائيل» بعين الريبة والتوجس ومؤازرة لمخطط إخواني باهت يقوم على التجمع والتظاهرات ومحاولة خرق النظام العام في مرافق الحياة والمدن المصرية المهمة بمساعدة تيارات سلفية تهدف لتدمير مصر وشعبها .

ومن جهة أخرى يطرح تعليق المعونات الإقتصادية والعسكرية الإميركية عن مصر تساؤلاً حول قدرة القاهرة الإستغناء عن هذه المعونات او ربما من دول أخرى خصوصاً إذا ما علمنا أن الولايات المتحدة تفرض قيوداً مشدّدة للغاية على الدول التي تورّد لها السلاح وصعوبة استعانة مصر بها وهي قيود تفرض على القارة الاوروبية التي تعتبر المنتج الثاني للسلاح بعد الولايات المتحدة حيث تتمتع الاخيرة بنفوذ وسطوة كبيرة على قراراتها.

أما حول ما يمكن ان تقدمه دول الخليج لمصر في أزمتها الراهنة فالكل يعلم أن اميركا تتعامل بحذر شديد مع السوق الخليجي وتخضع تصدير السلاح إلى هذه الدول للكثير من القيود حفاظاً على أمن «إسرائيل» وتفوقها العسكري. وبغض النظر عن الحماسة السعودية التي تبديها تجاه الجنرال السيسي في مواجهة مشروع الإخوان الذي تخشاة لأسباب داخلية فهي تبقى في النهاية حليفة استراتيجية للولايات المتحدة وتدور في فلكها ايضاً. وإذا ما قررت الولايات المتحدة قطع السلاح عن مصر فلن يجرؤ احد على مدّها به لكن تبقى المساعدات المالية قائمة وقد تكفي بضعة ملايين من الدولارات للقيام بالواجب!

هي مصر التي تتعرض لحرب ضروس وضغط داخلي وخارجي فمن جهة تحارب الفقر والبطالة ومن جهة أخرى يضغط عليها الإرهاب وهما عدوان زاد عليهما انقلاب الحلفاء وتحولهم إلى خصوم يضغطون ويبتزون لصالح مشروع «هجين» توفي سريرياً فور ولادته وها هم يراهنون على قيامه من جديد ونفخ الروح فيه على حساب أرواح المصريين وعسكرهم .