في كلّ مرة تشتعل فيها جبهة جبل محسن-باب التبانة يصبح الحديث حصرا حول الطريقة التي ستتوقف فيها المعارك، وما هي التسوية التي ستحصل من أجل إنهاء جولة العنف الحالية بانتظار الجولة التالية. لا أحد يعلم كيف تبدأ المعركة هناك ومن أطلق الطلقة الأولى. لا أحد يسأل لأنّ الجواب سيكون معروفا وكل فريق سيلقي اللوم على الآخر، خصوصًا أنّ الأفرقاء المتنازعين في طرابلس هم "ملائكة"، سلاحهم الكلمة الطيبة والتسامح!
اشتعلت المعركة نهار الاثنين الماضي خلال عرض مقابلة الرئيس السوري بشار الأسد على التلفاز. في صباح ذلك اليوم، عقد الحزب العربي الديمقراطي اجتماعا له برئاسة رفعت علي عيد، وتم طرح موضوع الظهور الاعلامي للرئيس السوري وكيفية تعامل أهل الجبل معه، فكان التشديد من عيد على ضرورة عدم إطلاق النار ابتهاجا كي لا تتجه الأمور نحو التصادم، وهو ما أكّده مسؤول الاعلام في الحزب العربي الديمقراطي عبد اللطيف صالح، في حديث لـ"النشرة"، حيث قال: "اتفقنا على عدم إطلاق الرصاص إلا أنّ مجموعة من الشبان الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و17 سنة قاموا بالتزامن مع مقابلة الاسد باطلاق المفرقعات في الجو"، وأضاف: "عندها توجهت مع مجموعة من شباب الحزب نحو مصدر المفرقعات لوقفها عملا بتوجيهات عيد، فكانت المفاجأة بأنّ عناصر مسلحة باشرت بإطلاق النار نحو جبل محسن مما يثبت أنّهم كانوا بأتم جهوزيتهم وعلى تنسيق مسبق بين بعضهم البعض لفتح معركة معنا".
في المقابل، رأى مسؤول محور "الحارة البرانية" زياد علوكي أنّ أمر فتح المعركة أخذه الرئيس السوري بشار الأسد وأبلغه "للتابعين له" في جبل محسن، كما وصفهم. وقال علوكي، في حديث لـ"النشرة": "تزامناً مع مقابلة الأسد بدأ إطلاق الرصاص نحو أهلنا وأطفالنا وبيوتنا".
مصدر مطلع على تطورات طرابلس أبلغ "النشرة" أنّ مقابلة الأسد كانت الشرارة التي أدّت لانطلاق جولة العنف الحالية رغم وجود أسباب مخبّأة أخرى تتعلق بالوضع السوري والمنطقة. وفي التفاصيل قال المصدر: "عندما جرى الاعلان عن المقابلة عمّ الفرح جبل محسن وتم الاستعداد للابتهاج بها، أما في منطقة باب التبانة فالوضع كان معاكسا، مما دفع مسؤولي المحاور لاطلاق تحذيرات بأنّ أيّ طلقة رصاص تطلق ابتهاجا بالاسد ستُعتبر استفزازًا لأهالي التبانة وسيتم الرد عليها بقوة وهذا ما حصل".
الجانبان يتحملان إذًا المسؤولية، ولو بنسب متفاوتة، فإطلاق النار ابتهاجا بإطلالات الزعماء ليس حكرا على جهة وكل الأفرقاء في لبنان لهم الباع الطويل في هذا المجال السيء، لكنّ صالح لفت إلى أنّ إطلاق النار ابتهاجًا ليس أمرًا جديدًا، وهو رغم نفيه حصوله اعتبر أنّه، إن حصل في الجبل، لا يجب اعتباره استفزازًا لأحد "لأنهم عندما يطلقون الرصاص فرحا باطلالات رئيس الحكومة السابق سعد الحريري الاعلامية ويأتينا الرصاص، لا نقوم بأي ردة فعل وبالتالي هم محضرون لفتح المعركة بإيعاز من رئيس جهاز الاستخبارات السعودية بندر بن سلطان".
ما يجري اليوم في طرابلس هو الاستعداد للمعركة الكبرى التي ستنطلق مع معركة القلمون، هذا ما أشار إليه المصدر في حديثه لـ"النشرة"، لافتًا إلى أنّ الكلام الطرابلسي يتمحور حول هذا الموضوع باعتبار أنّ الجانبَين المتنازعَين خائفان من تداعيات معركة القلمون، فانتصار النظام السوري يخيف أهل التبانة وهزيمته تخيف أهل جبل محسن. وفي هذا السياق، رأى عبد اللطيف صالح أنّ الهجوم على جبل محسن هو المرحلة الاولى المرافقة للمرحلة الاولى في معركة القلمون التي انطلقت مؤخرا، مشيرًا إلى أنّ السعودية وضعت جبل محسن مقابل عرسال. من جهته، أكد زياد علوكي أنّ لا علاقة لما يجري في سوريا بأحداث طرابلس وبأن سبب المشكلة فيها هو وجود "سرطان" في جبل محسن اسمه الحزب العربي الديمقراطي، داعيا لازالته وحل الحزب وإرسال عناصره إلى سوريا حيث بشار الاسد، على حدّ تعبيره.
لا صوت يعلو فوق أصوات الرصاص في طرابلس. هذه هي الحال اليوم، وصوت السياسيين أصبح خافتا، وبحسب علوكي، فإنّ أحدًا من سياسيي طرابلس لا يمون على "قادة المحاور" فهم كلهم يبيعون ويشترون في سبيل المناصب والكراسي. أجهزة الدولة تحركت في الغرف المغلقة وعقدت اجتماعات أمنية وسياسية لا تسمن ولا تغني من جوع لأنّ التحرّك يجب أن يكون على الأرض وبقوة وإعطاء الدعم الكامل للجيش اللبناني كي لا يكتفي باطلاق النار فوق رؤوس المسلحين بهدف إرهابهم فقط كما يحدث اليوم.
6ضحايا سقطوا منذ بداية المعركة مساء الاثنين حتى تاريخ كتابة هذا التقرير، وأول الضحايا كان دانيال الاحمد الطفل صاحب الـ14 ربيعا. 6 ضحايا وأكثر من 30 جريحا كلهم مواطنون عاديون لا يحملون السلاح سقطوا في ملعب الحرب المذهبية والعبثية. كلّ هذا والمعركة لم تبدأ بعد بحسب علوكي وصالح. فالأول أكد أنّ من يطلق الرصاص من باب التبانة اليوم هم شباب عاديون وليسوا منظمين وأنّ التنظيمات المسلحة والمدربة لم تدخل المعركة بعد، والثاني لفت إلى أنّ الجيش اللبناني هو من يتولى حاليا الرد على مصادر النيران وأنّ عناصر الحزب العربي الديمقراطي لن تتدخل إلا إذا تقاعس الجيش عن حماية أهل الجبل أو إذا جرت محاولات لاقتحام جبل محسن.
منطقة طرابلس تعاني شللا مطلقا والخوف يسيطر على الكبير والصغير فيها، طرقاتها خطرة بسبب القنص، أسواقها ومدارسها مغلقة، وسكانها في أتعس حالاتهم. كل ذلك بسبب مجموعات حملت السلاح وقررت أن تقاتل لاسباب طائفية، مذهبية وسياسية مقيتة. مع كل جولة حرب جديدة بين التبانة وجبل محسن يحضر اهالي المنطقة النعوش لاحتضان الضحايا الذين لم يجدوا من يحتضنهم في حياتهم. تشتعل تلك المنطقة وتهدأ والدولة كالعدّاد لا تقوم سوى بعدّ الجولات وإحصاء الموتى.