قرر وزير الداخلية منع قوى الامن الداخلي من التدخل في مخالفات البناء باعتبار ان القانون لا يخولها مراقبة اعمال البناء بل اناط الموضوع برئيس البلدية ضمن نطاقه والقائمقــام والمحافظ ضمن المناطق التي لا توجد فيها بلديات، وموضحا ان هذه السلطات يمكنها في حال عدم قدرتها على ضبط المخالفة ان تطلب مؤازرة قوى الامن الداخلي على ان تتم المؤازرة وفقا للاصول المحددة في القانون الرقم 17 تاريخ 6/9/1990 لاسيما المادة 198 لجهة ان يكون الطلب خطياً ومؤرخاً.

ان هذا القرار المتخذ من وزير الداخلية مخالف للقوانين كما سيأتي بحثه، لان مخالفات البناء ليست مجرد مخالفة بسيطة بل هي من فئة الجرائم الجنحية الوصف، وان القانون رقم 17/90 المتعلق بتنظيم قوى الامن الداخلي يحتم على هذه القوى في مادته الاولى: "حفظ النظام وتوطيد الامن وتأمين الراحة العامة وحماية الاشخاص والممتلكات وحماية الحريات في اطار القانون وذلك في مجال المهام المنوطة بالضابطة الادارية".

وبالتالي، فان خدمة قوى الامن الداخلي على نوعين، عادية وغير عادية: فالخدمــة العاديــة تقوم بها من تلقاء نفسها عملا بالمادة 191 من قانون تنظيمها. اما المؤازرة المتحدث عنها في قرار وزير الداخلية تشكــل استثنــاءً اي خدمة غير عادية للقواعد والاصول التي اناطهــا القانون رقم 17/90 بقوى الامن الداخلي0 ما يعني، وبحكم هذا القانون الاخير، ان المــــــؤازرة لا تعفي رجال الامن الداخلي من تنفيذ المهام المنصوص عنها في هذا القانون بمادتيه 1و191.

وان مهام الشرطة البلدية لا تغني عن قيام قوى الامن الداخلي بواجباتها تجاه جرائم مخالفات البناء، كون هذه الجرائم يجب قمعها عند حصولها او احتمال حدوثها، من قبل جميع الجهات الامنية سواء بسواء دون اي تفريق بين شرطة بلدية او رجال امن داخلي، وذلك بخلاف ما جاء في قرار وزير الداخلية.

ولو افترضنا ان رئيس البلدية لم يتقدم بطلب مؤازرة بقصد غض النظر عن جريمة مخالفـة بناء في بلدته خدمة لاحد مؤيديه، فهل تبقى قوى الامن الداخلي مكتوفة اليدين الى ان يردها منه تكليف بالمؤازرة؟! واذا افترضنا ايضا ان مواطنا معتدى على ملكه تقدم بشكوى لدى رجال الدرك بمادة مخالفة بناء فهل يرفض طلبه من هؤلاء تحت ذريعة عدم وجود تكليف بالمؤازرة؟! واذا شاهد رجل الامن الداخلي، اثناء قيامه بوظيفته، وقوع جريمة مخالفة بناء او اتصلت الى علمه بطريقة الشبهة المشروعة فلا يتحرك الا بتكليف بالمؤازرة؟! اوليس من واجب رجل الامن ( الدرك ) عند مشاهدته جريمة اعتداء على الملكية عن طريق ارتكاب مخالفــات بناء ان ينتقل فورا الى مكان حصولها ويبلغ النائب العام بها، عملا بالمادة 41 اصول محاكمات جزائية؟

وطالما ان المشترع لم يفرق في حالة قمع وضبط الجرائم، ومنها مخالفات البناء، بين جريمة واخرى وبين شرطة بلدية وبين قوى امن داخلي فلا يجوز لوزير الداخلية التمييز بينها. وفي المحصـّلة : ان قرار وزير الداخلية يتعارض مع احكام قانون 17/90 ( تنظيم الامن الداخلي) ومــع قواعد اصول المحاكمات الجزائية، وقانون البناء ايضا رقم 646/2004بمادتــــه 23، علما، بان مخالفات البناء تخضع كغيرها من الجرائم لقواعد الاثبات. وبالتالي، يقتضي مراقبة واستقصاء الجرائم كافة من قبل المراجع القضائية والادارية والامنيـة توصلا الى قمعهــا.

وبعــد، يبدو ان وزارة الداخلية تطمح الى تطبيق اللامركزية الادارية، التي نصّت عليها وثيقة الوفاق الوطني في الطائف، قبل انتظار قوننتها، فان هذا الطموح، على ما فيه من جرأة، لا يحتاج الى تعطيل او تجريد قوى الامن الداخلي من صلاحياتها القانونية تجاه جرائم مخالفات البناء بحسب المجرى الطبيعي للامور القانونية المستمرة منذ عشرات السنين، ولا يمكـن الاعتقاد ان جميع وزراء الداخلية السابقين كانوا على خطأ بهذا الخصوص ما عدا الوزيــر الحالي الذي نكن له الاحترام اللائــــق، وهــو المـــــردد لكلمة: "ماذا يقول الكتاب" ( اي القانون) التي استهل بها عمله الوزاري.

ونشير، في هذا الاطار ايضا، الى ان البلديات غير مؤهلة بحسب قانونها لاستيعاب قواعد واصول اللامركزية الادارية، فهي عاجزة عن تحمل اعباء ومسؤوليات لا قبل لها على تحملها لاسيما من الناحية الاجتماعية الضيقة التي تحول دون تمكن رئيس البلدية من الاضطلاع بمهام قمعية تجاه اهل بلدته. اما من الناحية القانونية فليس من المنطق بشيء تكليف الشرطة البلدية بتولي دور رتباء التحقيق دون اخضاعهم لدورات تأهيلية وتدريبات سلوكية صارمة على كيفية القيام باجراءات التحقيق وتوقيف المجرمين واحالتهم، وعلى كيفية استخدام السلاح والاحتراز من مخاطر استعماله. اضف الى ذلك، ان جميع عناصر الشرطة البلدية تقريبا ينتمـــون الى البلدة او القرية التي يعملون في بلديتها، الامر الذي سيؤدي، بسبب مخالفات البناء وغيرها، الى نشوب منازعات واشتباكات وصراعات لا طائل بعدها بين الاهلين انفسهم، وبحسب انتماء كل منهم، وبين عناصر الشرطة البلدية من ناحية اخرى وذلك، في كل دسكرة وشارع وحي وقرية وبلدة ومدينة.

وحيال كل ذلك، نرى اليوم فوضى جرائم مخالفات البناء قد استشرت وتمادت اكثر فاكثر مع صدور قرار وزير الداخلية، ولا نخاله يتردد في تقرير الرجوع عنه. وعلى كل حال، فان رجل الامن الداخلي لا يستطيع الامتناع عن تطبيق القانون، لاسيما اذا ما طلب منه المواطن تطبيقه، بقطع النظر عن وجود قرار وزاري، والا جاز له ملاحقته امام المحاكم العسكرية استنادا الى مبدأ تسلسل القواعد (Hierarchie des ordres juridiques ) بحيث ان القضاء يهمل القرار اذا كان مخالفا للقانون.