مع تصاعد منسوب التوقعات بحصول توافق إيراني دولي في جنيف حبس العالم أنفاسه قبل يومين واستنفرت الدبلوماسية الغربية والإميركية أوراقها التفاوضية وحزم وزير الخارجية جون كيري حقيبة العودة إلى جنيف قاطعا زيارة مهمة إلى المنطقة كانت تستهدف إعادة إحياء «الثقة» مع الحلفاء القدامى وتجديد العهد بأن العلاقات الإستراتيجية معهم لن تهزها أية «صفقة نووية» مع طهران والتي «أصبحت ممكنة» بحسب الرؤية الغربية مع التغيرات التي طرأت على الساحة الداخلية الإيرانية بعد إنتخاب الرئيس الإيراني الشيخ حسن روحاني وانتهاج دبلوماسية خارجية منفتحة أيضا مع تبوؤ محمد جواد ظريف لوزارة الخارجية إضافة إلى التغييرات الميدانية التي طرأت على الأزمة السورية.

كلها أسباب حصّنت من الوضع التفاوضي للوفد الإيراني في جنيف وهو ما عبر عنه الرئيس روحاني عبر دعوته الدول الغربية إلى «إقتناص» الفرصة التاريخية لتوقيع إتفاق نووي مع إيران وذلك للمرة الاولى بعد مضي سنوات من المفاوضات الشاقة والعسيرة بين إيران ودول 5 1 والتي تعرقل مسارها لأسباب تعلقت بالوضع الداخلي الإيراني حينها وعدم إتضاح الرؤية في المنطقة عموما .

لكن يبدو للمتابعين لملف التفاوض الشاق بين إيران والدول الغربية بأن تباينا في الموقف الغربي قد يعرقل هذا المسار ويبدد موجة التفاؤل التي خيمت فوق سماء جنيف في اليومين الأخيرين وتحديدا الموقف الفرنسي من داخل المجموعة والتهديد الإسرائيلي من خارجها. فقد صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وبشكل واضح بأن إسرائيل لن تقبل أي نوع من هكذا إتفاق تحصل فيه إيران على كل شيئ ولا تقدم أي شيئ في المقابل على حد تعبيره- وهو ما قد يفسر إنتصارا للدبلوماسية الإيرانية مقابل وعود تقدمها لا تمس بحق إيران بالطاقة النووية وهو الأمر الذي ترفضة «إسرائيل» تماما وتعتبر نفسها غير ملزمة به وهو ما عبر عنه نتنياهو لوزير الخارجية الأميركية جون كيري في لقائهم الأخير في مطار بن غوريون والذي كان سيئا جدا حسب التسريبات الصحافية حيث لم يتمكن كيري من إقناع «إسرائيل» بالموقف الأميركي المستجد من إيران وبأهمية إبرام صفقة متكاملة تشمل ملفات النووي والسوري.. والقضية الفلسطينية.

وهذا الملف الأخير أي المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية هو ما تقايض «إسرائيل» به إدارة باراك أوباما ولا تمنحها فرصة تحقيق تقدم أو أي إختراق يذكر فيه وذلك عبر إستكمال سياسة إستيطان ممنهجة تطيح بكل امال تسوية هذه القضية. هذا الموقف الإسرائيلي المعرقل تفهمه الولايات المتحدة جيدا وهو ما جعل وزير الخارجية جون كيري يطلق تحذيرا شديد اللهجة للإسرائيليين بضرورة إقتناص اللحظة المناسبة للتفاوض مع حكومة عباس «اللينة» وإلا فإن البديل سيكون فوضى وتطرفاً!.

هذا الإفتراق الواضح في الموقفين الأميركي والإسرائيلي من الملف النووي الإيراني والصفقة المقترحة شابهه الموقف الفرنسي الذي غرد وحيدا خارج السرب الغربي ونقض موجة التفاؤل التي سرت في الساعات الأخيرة وهو ما فسرته بعض الأوساط المتابعة لمسار المفاوضات في جنيف بأنه محاولة فرنسية لتسجيل دور لافت في هذا الملف وعدم إستئثار الولايات المتحدة به وحدها. إلا أنه من الواضح أن الإدارة الأميركية ومن خلفها بعض الدول الغربية سوف تمضي بهذا المسار الإنفتاحي تجاه القيادة الإيرانية الجديدة وما يمكن أن تقدمه أيضا في مفاوضات «جنيف 2» المتعلقة بمسار الأزمة السورية والتي يمكن ان تكون الفرصة الأخيرة لإيجاد مخرج يجنب المنطقة حربا كادت أن تنطلق كالنار في الهشيم.

تدرك الإدارة الإميركية جيدا بأن النقاط الإيرانية المطروحة حاليا في جنيف قد تضمن مكاسب لإيران أكثر من قيمة «الوعود» والتي قد تخضع للتعديل وفق موازين مختلفة تفرضها ضرورات الميدان فالحاجة الملحة لتخفيف نير العقوبات الإقتصادية عن الكاهل الإيراني مقابل الوعد بتقليل نسبة التخصيب لليورانيوم مع التأكيد بأن حق إيران بالنووي هو خط أحمر يبدو وكأنة كسب جولة أولى وهو الأمر الذي ترفضه «إسرائيل» تماما وتعتبر نفسها غير ملزمة به في حال إقراره وهو ما قد يفتح إحتمالات «مجنونة» ترتكبها «إسرائيل» تجاه مراكز الطاقة النووية الإيرانية وإن كان هذا الامر يبدو مستبعدا في المدى المنظور لخطورته القصوى.

هذا التوجس الإسرائيلي والتعنت أيضا لم يكن بعيدا عن موقف بعض الدول العربية والخليجية والتي أبدت إستعدادها لتمويل ضربة عسكرية لسوريا في وقت سابق من هذا العام وتحديدا المملكة العربية السعودية والتي أسمعت حليفتها القديمة كلاما سريا وعلنيا عن عدم رضاها عن الإنفتاح الأميركي تجاه إيران ومحاولة ممارسة ضغوط إقتصادية وسياسية على الولايات المتحدة لعرقلة هذا التوجه الأميركي الجديد والذي يبدو غير آبه لهذه التحفظات.

مهمة الرئيس الأميركي باراك اوباما ودبلوماسيته تبدو صعبة وشاقة فيما يخص التعاطي الجديد مع إيران بمواجهة الضغوط الهائلة التي يتعرض لها من الحلفاء مقابل خطاب إيراني مرن مستند لأوراق تفاوضية قوية قد تساهم بتحقيق بعض تطلعات إدارة أوباما لتحقيق إنجاز ما وهو على مقربة من إنتهاء ولايته الثانية التي وعد بتحقيق الكثير فيها إلا أنه فشل فشلا ذريعا وبموازاة ذلك لا تزال قرقعة السلاح والحرب واردة وهو ما يسير دائما جنبا إلى جنب مع الصفقات الكبرى فمن ينتصر في النهاية؟..هذا ما سيجيب عنه المقبل من الأيام!.