يقوم جمال عن مقعده الدراسي ويتوجه ببطء إليك. تنظر إلى عينيه، ينظر إلى الأرض. تتحدث إليه، لا يجيب. لكنه يأتي إليك ويغمرك، ومن ثم يعود ويجلس بقرب زملائه متفاعلاً، على طريقته، مع ما يجري من حوله... فجمال يعاني من اضطراب يعرف اليوم تحت اسم "التوحد"، وقد التقينا به في مركز الشمال للتوحد في زغرتا.

هذا المركز هو الوحيد شمالاً المتخصص بـ"التوحد" في ظل ارتفاع عدد طلبات الإنضمام إليه يوماً فيوم إذ بات يضم، بعد 3 سنوات على تأسيسه، بحدود الـ40 طفلاً، فيما تقدم 70 آخرون بطلب الإنتساب إليه دون التمكن من ذلك.

وتعيد مديرة المركز سابين سعد هذا الأمر إلى التشخيص الذي بات أكثر دقة اليوم. وتقول: "في السابق كان هؤلاء الأطفال يوضعون في مؤسسات الصم والبكم لأنهم لا يتجاوبون دائما عندما يتم التحدث معهم، أو بمؤسسات للتأخر العقلي، ومعظمهم كانوا في منازلهم، أما اليوم، فيجري تشخيص الحالة بفعالية"، وتشرح أنه "لم يكن بإمكاننا استقبال المزيد من الأطفال هذا العام لأن عدد المتخصصين يجب أن يكون أكثر من عدد الأطفال للتمكن من متابعتهم. فلدينا فريق عمل متكامل يتابع كل طفل، ولا يمكن استقبال عدد أكبر مما يمكن للمركز تحمله".

أجواء متفائلة

خلف كل حالة من الحالات الـ40 الموجودة في ذلك المركز الكثير من التضحيات، من قبل الأهالي، ومن قبل فريق العمل، وألم طفل لا يتصرف كباقي الأطفال. ولكن، عندما تجوب في أرجائه، لا ترى الحزن والإكتئاب رغم سماعك صراخ الأطفال بين الحين والآخر، بل تستوقفك الجدران الملوّنة والمزّينة بالأعمال اليدوية، ولائحة الحضور المؤلفة لا من أسماء بل من صور للأشخاص الموجودين، وتستوقفك أيضاً صورة للحمام وأخرى لقنينة مياه للشرب في كل قاعة. فلماذا كل هذه الصور وما الهدف منها؟ توضيحاً لذلك، تشرح الأخصائية في علم النفس نايلة الحسيني أنه يتم استخدام الصور استنادا إلى تقنية "بيكس"، لأن الولد الذي يعاني من التوحد لا يمكنه في أغلب الأحيان أن يتحدث عما يحتاج إليه، وبالتالي، فمن الأسهل له الإشارة إلى الصورة. ومع تطور المتابعة، يمكن أن يصبح لكل ولد ألبوم صور يشير فيه إلى ما يريده، ويمكنه من خلاله التواصل مع الآخرين. ولكنها تؤكد أنه "عندما نستخدم الصورة لا نلغي التواصل الكلامي".

وخلال التجول في أرجاء المبنيين التابعين للمركز، أحدهما للأطفال، والآخر للمراهقين، وجدنا أحد الفتية معتمراً خوذة مخصصة لقيادة الدراجات النارية، لنكتشف فيما بعد أن هذا الصبي، الذي يعتبر من أصعب الحالات الموجودة في المركز، كان يضرب رأسه على الحائط كلما بدأت عوارض الأزمات لديه، فكان لا بد من حمايته بهذه الطريقة. وعندما رأيناه، كان برفقة أحد المتخصصين الذي كان يساعده على تناول الغداء. فالمرافق يكرّس كل وقته ليكرر الأفعال ذاتها أمام الولد حتى يكتسب هذا الأخير معرفة جديدة ولكي تتطور حالته.

مساع للدمج الكامل أو الجزئي

تأسس هذا المركز عام 2010 بمبادرة من السيدة ريما فرنجية وذلك "إنطلاقا من الحاجة الكبيرة والملحة في المنطقة"، بحسب سعد، التي تؤكد أن "لا وجود لمركز آخر يعنى بالتوحد شمالا بل بعض المراكز التي قد تستقبل بعض الحالات". ويعمل المركز اليوم على تأهيل ومرافقة هؤلاء الأطفال، والسعي لدمجهم الكامل أو الجزئي في بعض مدارس المنطقة.

وتشرح سعد أنه، وخلال العام الماضي، "بدأنا ببرنامج الدمج المدرسي في مدرسة الأنطونية في الخالدية، مع ولدين، وخلال العام الماضي أيضاً، وجدنا أن بعض الأولاد يمكنهم الإستفادة من برنامج الدمج ولكن لا إمكانيات مادية للأهالي لكي يتحملوا كلفة التعليم الخاص، فبدأنا نتعاون مع مدرسة رسمية. أما اليوم، ففي مدرسة الأنطونية يوجد 6 أطفال يستفيدون من هذا البرنامج، وفي مدرسة "نورث ليبانون" 6 آخرين، قسم منهم لديهم دمج جزئي والقسم الثاني دمج كامل، هذا بالإضافة إلى الأطفال الموجودين في المدرسة الرسمية".

وتوضح أن كلفة متابعة كل طفل مرتفعة جداً بسبب عدد الأخصائيين، مشيرة إلى أننا "نعتمد على التقديمات وتمويل المؤسسين، إلى جانب النشاطات التمويلية". وتشرح أن "وزارة الشؤون تغطي عدداً أيضاً من الأطفال الموجودين لدينا، وبالتالي، فإن الأهالي الذين يستفيدون من خدمات الوزارة لا يدفعون كلفة معينة بل يتبرعون بأي مبلغ إذا أرادوا".

وتشرح سعد أيضا، أن العمل مع الأطفال في المركز يبدأ من عمر سنة، في الحضانة، حيث يرافقهم "معلم ظل"، ومن ثم عندما يبلغون 3 إلى 5 سنوات، تتخذ الإجراءات وفقاً لقدرة كل ولد، فيتم تقسيمهم وفق العمر والمستوى. وتكشف أن العمل جارٍ على "إنشاء منزل لهؤلاء الأشخاص لكي يتعلموا قبل الظهر ويعملوا بعد الظهر، فيعيشون فيه كمنزلهم".

... تدور يساراً ويميناً

التوحد يرافق الطفل طوال حياته، لذلك يسمى اضطراباً ولا يسمّى مرضاً، "فالمرض، يمكن معالجته أو تخفيف حدته بالدواء، اما التوحد فلا يمكن معالجته لأننا لا نعرف حتى اليوم أسبابه الفعلية"، بحسب الحسيني، التي تؤكد أنه، وفي بعض الحالات، يتناول الأطفال الدواء لمعالجة العوارض لا الأسباب".

وتتابع: "هناك حالات خفيفة، وحالات شديدة، مروراً بالحالات المتوسطة، لذلك، بعض الأطفال موجودزن اليوم في المركز والبعض الآخر في المدارس"، مشيرة إلى أن "الإضطراب واحد ولكن على درجات، والتشخيص المبكر يساهم في تقدم حالة الولد".

وعن كيفية التشخيص، توضح أنه "ابتداءً من عمر الـ6 أشهر و9 أشهر يمكن اكتشاف الحالة: فالولد بهذا العمر إذا ابتسمت له يبتسم لك، وإذا نظرت إليه ينظر إليك، وإذا رأى أمه واقفة إلى جانبه يرفع يديه لكي تحمله، أما لدى الولد الذي يعاني من التوحد لا نرى هذه العلامات"، لافتة إلى أنه "يمضي وقتاً طويلاً، في بعض الأحيان ساعات، أمام غرض معين، يقوم بما تقوم به الغسالة: حركات دائرية يميناً ومن ثم يساراً. وكذلك عندما يلعب بالسيارات البلاستيكية، بدلاً من القيام بما يقوم به سائر الأولاد، أي تسييرها على مساحة مسطحة، يحملها الولد الذي يعاني من التوحد ويلفّ الدواليب مرارا وتكرارا". وبالإضافة إلى ذلك، بحسب الحسيني، فإن الأطفال المتوحدين يتعلقون بالأغراض لا بالأشخاص، ويحبون الروتين والأمور التي تشبه بعضها البعض... فإذا تم تغيير ديكور غرفتهم مثلاً، يغضبون ويتأثرون، ويعبرون بالبكاء والصريخ بسبب غياب التواصل".

وتتابع: "يأتي الأهل عندما يصبح عمر الولد سنة ونصف ولم يبدأ بالتحدث، عندها يبدأون بالبحث عن السبب".

السبب مجهول!

تجدر الإشارة إلى أن الطبيب النفسي المتخصص بالأطفال وحده القادر على تحديد حالة التوحد، بعد الأخذ بالإعتبار التقارير التي يقدمها له الأخصائيون، وبالتالي فإن هذا المركز يرسل التقارير إلى أحد أطباء النفس المتخصصين بالأطفال وهو يشخص الحالة.

وحتى الساعة، لا احد يعرف السبب الفعلي لهذا الإضطراب، ولكن بعض الأهالي يلقون اللوم على أمور معينة أو على ذواتهم. أما الحسيني فتؤكد أن "المحيط والأهل لا علاقة له بذلك، فالعلم لم يكتشف السبب الفعلي ولكنه من المرجح أن يكون جينياً".

أما سعد، فتشير إلى ان "كل الأهالي يمرون بفترة صعبة يرفضون خلالها هذا الواقع، وتشخيص المرض هو صدمة على الأهل، لذلك نعمل معهم لكي يتخطوها بسرعة"، موضحة أن "إحدى المتخصصين النفسيين تعمل فقط لدعم الأهالي الذين يجتمعون مرة كل 15 يوم يتناقشون خلالها بالصعوبات التي تواجههم، ويحصلون أيضاً على تنشئة حول كيفية التعاطي مع بعض الأمور المتعلقة بحالة التوحد".

وكان ليو كانر أول من حدد هذا الإضطراب عام 1943 ووصف 3 علامات له: أولاً، قلة التواصل. ثانياً، السلوك المتكرر: إعادة الحركات عينها بنفس الطريقة. وثالثاً، غياب التبادل الإجتماعي.

وتكمن أهمية وجود مراكز متخصصة بهذا الإضطراب بالتقدم الذي قد يحرزه الولد في حال تمت متابعته بطريقة جيدة منذ الصغر، وقد يصبح إنساناً عادياً بالمجتمع إذا كان لديه مستوى متدنٍ من التوحد، أو على الأقل، قد يوجه طاقاته حيث يجب ووفقاً لقدراته الخاصة.

الولد، ومنذ وجوده في أحشاء أمه، يوعّي لدى والديه أحلاماً كثيرة: فهل سيصبح قبطاناً أو محامياً أو طبيبياً...؟ ولكن، لا يكون الإنسان أقل إنسانية إذا كان أقل إنتاجية رغم محاولة فرض هذا الواقع من قبل المجتمع الإستهلاكي... وما وجود هذا النوع من المراكز للإعتناء بحالات قد يعتبرها كثيرون "ميؤوسًا منها" إلا بادرة أمل على استعادة الإنسانية جزءاً من تألقها بالدفاع عن كرامة كل إنسان... مهما كانت إعاقته الجسدية أو العقلية.

الألبوم كاملاً -اضغط هنا