هل هي طرابلس لبنان؟ أو هي طرابلس الشام تلك التي راح زعماؤها ذات يوم من أيام ما قبل الإستقلال يطالبون بضمِّها الى سوريا. فكان جواب زعماء سوريا آنذاك: "أُبقوا في لبنان واعملوا على استقلاله لأن استقلال لبنان أكثر فائدة لسوريا من إلحاق طرابلس بها".

ولأن الزعماء اللبنانيين لا يزالون مصرِّين على إلحاق طرابلس بسوريا، فلا بدّ من أن يخوض هذا التوْأم المعركة الضارية نفسها بين معارضة ونظام، بعتادها وقواها ومجموعاتها والمدافع والصواريخ، وقد يتكشّف المشبَّه به عن مذهبية علوية سنيّة، وعن حرس ثوري وداعش وقاعدة وجهاديين وملثّمين وسائر التكفيريين والخارجين على القانون، وأنْ يتمخَّض جبلٌ محسنٌ بالقصف والتفجير إِحساناً على المساجد والأبرياء، "وبالوالدين إحساناً".

وحتى تكتمل الصورة الشبَه، لم يبق إلا أن تزحف المجاهدات على أرض الفيحاء على غرار ما كان على أرض الشام، بل أن تزحف الشام بمن فيها الى لبنان تحقيقاً لرغبة الشيطان الشعري عند الأخطل الصغير حين يقول:

مَشَتِ الشامُ الى لبنانَ شوقـاً والْتـياحَا

جمَعَ المجدُ على الأرزِ سيوفاً وجراحا

فتساوَيْنا جهاداً وتآخينا سلاحا

ومع هذا كلّه، لا تزال طرابلس قانوناً على الخريطة اللبنانية، ومن ضمن الحدود الشمالية المسجّلة في الدستور، ولا تزال الخريطة اللبنانية تخضع للدولة اللبنانية قانوناً، والدولة - أيُّ دولة - في مجتمع يسود فيه المستحيل ويحلّل الإنسان للذبح، لا بدّ من أن تصبح حكماً دولة أمنية، لا أن تتحنَّطَ كالمومياء بشرعية صنميّة وصمّاء.

منذ أن ظهر أول مسلّح في طرابلس سافِرَ الوجه أمام الشاشات متحدياً سلطة الدولة، فهربت من وجهه الدولة، قلنا للمعنيين وكتَبْنا: إن تخاذل السلطة أمام ظهور بندقية واحدة في طرابلس سيؤدي الى قيام غابةٍ من البنادق، ويصبح القتل في غابةٍ مسألة فيها نظر.

وبفعل الغيبوبة السريرية لسلطة الدولة الأمنية في طرابلس، وعلى مدى بضع عشرة جولة دموية، أصبحت سلطة قادة المحاور أقوى من سلطة قادة الدولة وأصبح المسؤولون يسْتَجْدون منهم مهمة حفظ الأمن بذريعة: "أنّ أمن طرابلس هو أمن سياسي ومتى يتم التفاهم السياسي تنتهي المشكلة".

ووفق هذه المعادلة الأمنية الطوباوية يستمرّ تدمير عاصمة لبنان الثانية، ويستمر النَزْف وتساقُط الجثث الى ما شاء ربك، وما شاء قادة المحاور على الجبهات الإقليمية والدولية: في سوريا وجنيف وإيران والسعودية وروسيا وأميركا والصين.

ماذا كان يمنع السلطة المسؤولة عندنا، منذ بداية الأحداث وقبل تفاقمها من اعتماد هذا الإبتكار العقلي الخارق الذي تمَّ منذ يومين بتكليف الجيش مهمة الأمرة العسكرية ومسؤولية الخطة الأمنية؟

وأخيراً... أُحيل الأمر الى عهدة قائد محاور الدولة العماد جان قهوجي، ولم يبْقَ إلاَّهُ قادراً على استدراك الإنتظار الإنتحاري الذي واجَهَهُ الرئيس الأميركي روزفلت عندما أخذت دول المحور تهدد الولايات المتحدة فقال: "إِننا مقتنعون بأن انتظار الطغاة حتى يصلوا الى نوافذ بيوتنا هو عملية إنتحارية ونحن صمَّمنا ألاَّ ننتحر".

ومع أن روزفلت كان مصاباً بمرض شلل الأطفال فقد استطاع أن يقف على رجليه في مواجهة الطغاة، الذين إنْ وصلوا الى نوافذ بيوتنا نحن، فلأن المسؤولين الأطفال عندنا مصابون بالشلل ولم يستطيعوا أن يقفوا على أقدامهم.