لطالما كان التعصّب من أبرز أسباب الصراعات التاريخية، وما زالت هذه الظاهرة تتجدد بإستمرار في عصرنا الحالي وتشكّل آفة تدمر الشعوب. وقد صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الثاني عام 1981 إعلان خاص بشأن القضاء على جميع أشكال التعصّب والتمييز. فما هو مفهوم "التعصّب" وكيف يمكن معالجته بشكل يضمن حقوق الإنسان وحريّته الشخصية؟

"التعصّب".. كلمة متشعّبة الأنواع

يمكن تعريف التعصب بأنه شعور داخلي يجعل الإنسان يتشدد في أفكاره وتصرّفاته، ويرى نفسه دائماً على حق من دون اللجوء إلى برهان أو حجة لتثبيت الأمر. ويتجلّى هذا الشعور عبر ممارسات ومواقف معيّنة، مثل إحتقار الآخر وعدم الاعتراف بحقوقه وإنسانيته.

وفي حديث لـ"النشرة"، عرّفت الدكتورة في علم الإجتماع مي مارون "التعصّب" بأنه "كلمة سلبية متطرّفة"، لافتةً إلى أنّ "الفرد يصبح متشدداً بحيث يعمل جاهداً على إلغاء الآخر، الذي لا يشاركه نفس الأفكار والمعتقدات"؛ وأضافت: "التعصّب كالدم، يتغلغل في جسم الإنسان".

للتعصّب أنواع مختلفة، فهناك التعصب الحزبي، الديني، الطائفي، العرقي، الفكري، أو الطبقي؛ بالمفهوم العام للتعصّب. أما في لبنان، فتختلط المفاهيم والمقاييس حيث باتت كل أنواع التعصب مرتبطة فيما بينها.

التأثير السلبي للتعصّب على الفرد

للتعصّب تأثير سلبي على الفرد، إذ ان الشخص "المتعصّب" لا يمكنه أن يرى الواقع على حقيقته لأنه يرى فقط ما يميل إليه، وبالتالي فإن أحكامه لا تأتي منطقية وموضوعية، مما يؤثّر سلباً على علاقاته الإجتماعية ويحدّ من أصدقائه، كما أشارت إليه أخصائية في علم النفس رفضت الكشف عن إسمها، موضحةً لـ"النشرة" ان "التعصب يقطع النسيج الاجتماعي ويوسع هوة الخلاف بين الأصدقاء ويقلل فرص التوصل إلى حلول ناجعة في الحوارات والنقاشات". وأضافت ان "من شأن التعصّب، إذا زاد عن حدّه، تزييف الواقع وحرمان الفرد من التوصل للقرار السليم، إضافة إلى الفشل في تقييم الأفراد والمجتمع، وإفساد الوصول إلى الحق مما يحرم المجتمع من التقدّم والتطوّر"، مشيرةً إلى انه "يذكي النزاعات ويطيل مدة الخلافات، مما يساهم في زيادة حدة التوتر لدى الفرد ومحيطه".

التعصّب الحزبي في الجامعات

لا شكّ ان التعصّب بدأ يضرب بشدّة نفوس اللبنانيين نظراً للأوضاع التي نشهدها على الساحة السياسية، إلا انه لم يستثنِ طلاب الجامعات التي باتت نشاطاتها تهدف إلى خدمة الحزب ولا تأبه للكلية وإحتياجاتها وطلابها.

وإعتبرت جيسيكا فرح، الطالبة السابقة في إحدى كليات الجامعة اللبنانية، في حديث لـ"النشرة"، أن "السياسة داخل حرم الجامعة هي نموذج عن السياسة في لبنان"، مشيرة إلى أن "تعاطيها العمل السياسي داخل الجامعة أدخلها في صلب "المختبر السياسي" كما سمته، حيث يتم خلق الأكاذيب والتحضير للإشكالات"، لافتةً إلى انها "إنسحبت ولو متأخرة من العمل السياسي في الكلية، الذي لم تجد له نفعاً داخل حرم الجامعة لأنه لن يصبّ ببلد كلبنان في مصلحة تحسين وتطوير الجامعة".

وفي هذا السياق، رأت مارون ان "تعدد الأحزاب في لبنان دليل حرية ويدل على ديمقراطية السلطة، إنما سوء فهم هذا الواقع من قبل بعض الأفراد يؤدّي إلى التعصّب ومحاولة إلغاء الرأي الآخر في الجامعات"، موضحةّ ان "الحزبيين القدامى في كلية معيّنة يسعون جاهدين لجذب العدد الأكبر من الطلاب إلى مفاهيم الحزب الذي ينتمون إليه، من دون وجود أي دور تغييري لمصلحة الكلية أو الجامعة إنما لمصلحة الحزب فقط".

كما أشارت إلى ان "الإنتماء الحزبي لبعض الطلاب يجعلهم يرسبون في إمتحاناتهم ويبقون في صفوفهم سنوات عدة، من أجل إستمرار عملهم الحزبي في الكلية".

وعن رأي الأهل في إنتماء أولادهم الحزبي في الجامعة، أكدت ان "الطلاب، عندما ينخرطون بشدة في العمل الحزبي داخل الكلية، فإن ذلك يكون حتماً من دون موافقة ذويهم"، قائلةً: "عندما يدخل الطالب إلى الجامعة، أول ما يقوم به الأهل هو تحذيره من الإنخراط العميق في العمل السياسي بالكلية قائلين "ما بدنا مشاكل"، لأنهم يعرفون جيّداً ان الأحزاب ابتعدت عن مسارها الصحيح".

أما الطالبة رانيا حبيب، فأشارت إلى انها "عانت كثيراً من خلال إنخراطها في العمل السياسي بالكلية، وذلك لأسباب عدة منها تعارض هذا العمل مع أفكارها الخاصة الداعية إلى التحرر من التبعية وتحرّي الموضوعية والدقة في فهم الأمور"، قائلةً: "أدركتُ معنى التعصّب الحقيقي من خلال معرفتي لخفايا العمل السياسي والتحضيرات التي لا تهدف إلا لإلغاء الآخر إذا لم يمتثل لرأينا الخاص"، لافتةً إلى انه "بعد شعورها بالإشمئزاز العميق، تخلّت عن العمل الحزبي في الجامعة وتركته لأفراد لا يؤمنون إلا برأيهم الخاص الناسف لرأي الآخر"، مشددةً على ان "أهلها نصحوها منذ البداية بعدم الإنخراط بهذا العمل في الكلية".

وفيما يتعلّق بعمل الأحزاب "الخاطئ" في الجامعات، دعت مارون، رؤساء الأحزاب إلى "إعادة النظر في العمل الحزبي الذي يجري داخل الكليات"، مطالبةً بـ"دورات توعية للطلاب من أجل تحسين إطار الحركة الإجتماعية التغييرية"، مضيفةً: "ان لجوء إدارة الكلية إلى منع إجراء الإنتخابات الطالبية، ليس دليل صحة، بل يجب إجراء هذه الإنتخابات مع توفير إجراءات وتدابير معيّنة تلزم الجميع بعدم تجاوز القوانين والتصدي لأية تداعيات محتملة".

"قوات؟ عوني؟ كتائب؟ أحرار؟ أمل؟ حزب الله؟ أو تيار مستقبل؟".. هكذا تستقبل الجامعات، اللبنانية والخاصة، الطلاب اليوم. وإذا كان الطالب عند دخوله الجامعة غير ضليع سياسياً، فهو يتسلّم شهادته بعد سنين من الدراسة، موقّعة بقلم حزبٍ معيّن، وذلك إذا تخرّج ونال شهادته ولم يختر البقاء سنوات إضافية في الجامعة لإنشغاله بالنشاطات الحزبية داخلها.

وهكذا تزداد الآفات الإجتماعية يوماً بعد يوم، لتضاف إليها آفة "التعصّب الحزبي" لدى طلاب الجامعات، التي تتطلّب معالجة جذرية تبدأ من الشخص نفسه.