منذ لحظة وقوع الإنفجار الذي إستهدف موكب رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري في 14 شباط 2005، ظهرت مؤشّرات عدّة لتضييع التحقيق، بدءًا من فيلم "أبو عدس" الذي ظهر في شريط "فيديو" يعلن تبنّي العمليّة، ثم قضيّة حجّاج إسلاميّين غادروا إلى أستراليا بعد ساعات من حصول الإغتيال، الأمر الذي نفته السلطات الأسترالية في حينه، وصولاً الى التشكيك بالعقيد الشهيد وسام الحسن، الذي كان في حينه قائد سريّة الحرس الحكومي، ومسؤول المواكبة والحماية للحريري، وذلك بحجّة غيابه عن الموكب عند حصول التفجير. واليوم، ومع بدء العد العكسي لإنطلاق المحاكمات في هذه القضيّة الشائكة في 16 كانون الثاني المقبل، برز تصريح للمحقّق السويدي السابق في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، بو أوستروم، قال فيه إنّ "هناك شخصاً واحداً كانت بحوزته المعلومات عند خروج الحريري من قريطم إلى مجلس النوّاب، لجهة أيّ طريق يجب أن يسلك، وهو وسام الحسن". فهل فعلاً يوجد ما يدين الحسن؟
أوّلاً: بحسب الخبراء في مجال المواكبة الأمنيّة، إنّ من يحدّد وجهة سَير أيّ موكب لشخصيّة مهمّة إلى المكان المقصود، يكون قائد الموكب الميداني، أو الشخص الذي إنتدب للحلول مكانه في حال غياب الأصيل. ومن غير الوارد أن يُحدّد أي شخص، مهما علا شأنه، مسار موكب أمني بشكل مسبق، عن طريق المراسلة، أكانت هاتفية أو لاسلكية أو حتى برسالة رقمية، إلخ. لأنّ ذلك يُعتبر ثغرة أمنية خطيرة تُعرّض أمن الشخصية المُفترض حمايتها لخطر داهم. وبالتالي، إنّ من إختار خط سير موكب الحريري من مجلس النوّاب، مروراً بميناء الحصن، والطريق البحري قبالة الروشة، وصولاً إلى قصر قريطم، لا بد أن يكون شخصاً داخل الموكب، وليس الحسن الذي كان خارجه. أكثر من ذلك، إنّ قائد الموكب، أو من ينوب عنه، يجلس عادة في السيارة الطليعيّة لأي موكب أمني، أو في بعض الحالات داخل سيارة الشخصيّة المفترض حمايتها، لكنه من غير المنطقي أن يكون خارج الموكب ويوجّهه من بعيد.
ثانياً: إنّ تصريح المحقّق السابق أوستروم نُقل مجتزأ، حيث أنه وإضافة إلى ما نقله عن الحسن من أوامر بتحديد مسار موكب الحريري، رأى أوستروم أنّ إهمال وعدم تحرّك "الضباط الأربعة" بعد الإغتيال "يثير الريبة والدهشة"، وأنّ التحقيقات وجدت أنّ مصدر المواد التي إستخدمت في الإغتيال هي سوريا و"قد إستقدمت من هناك" معتبراً أنّ "سوريا هي العقل المدبّر لهذه العمليّة". ومن ضمن أقواله أيضاً في مقابلته الأخيرة: "لا أعتقد أنه كان هناك دافع من حزب الله لقتل الحريري، لكنّه كان أداة بيد سوريا". وبالتالي، من الواضح أنّ إتهامات المحقّق السابق أوستروم تذهب يميناً ويساراً، إنطلاقاً من نظريّته بأنّ "فرضيّة البراءة لحزب الله ما زالت قائمة، وما زال المُتهمون كثراً". كما أنّ إتهامات أوستروم تضع الحسن وسوريا بنفس سلّة الإتهام!
ثالثاً: إنّ الحسن خضع لمقابلة مع المحقّقين في بداية مسيرة التحقيقات بقضيّة إغتيال الحريري، شأنه شأن كل أفراد حماية الحريري الذين كانوا في الموكب ونجوا من الموت، أو الذين كانوا في إجازات ومنهم الحسن نفسه. ولم يظهر في حينه أيّ ممسك لا على الحسن ولا على باقي أفراد المواكبة الأمنيّة، لتحويلهم إلى متهمين. وليس سرّاً أنّ "آل الحريري" إقتنعوا بالحجج والبراهين التي رفعها الحسن آنذاك، وعادوا وائتمنوه على أهمّ الملفّات الأمنيّة التي لا تقتصر على كشف خيوط إغتيال الحريري، بل تطال أمنهم الشخصي في المراحل اللاحقة. ولو كان هناك ذرّة شكّ واحدة في نفوسهم، لما أقدموا على خطوة ترقية الحسن إلى أرفع المناصب الأمنيّة.
رابعاً: ليس سرّاً أنّ العقيد وسام الحسن لعب دوراً مركزياً في كشف الكثير من خيوط قضيّة إغتيال رفيق الحريري، ما جعله وفريق عمله، عرضة لمحاولات إغتيال سياسي دائم، بموازاة تعرّضهم لمحاولات إغتيال فعليّة، سقط الحسن في آخرها، في 19 تشرين الأوّل 2012، كما كان سقط قبله الرائد وسام عيد، ونجا قبله العقيد سمير شحادة.
خامساً: إنّ عمليّة إغتيال الحسن، تمّت في مرحلة كانت فيها قضيّة المحكمة الدولية في حال ركود تامة، وهي مثّلت نوعاً من الإنتقام منه لدوره في كشف الكثير من حقائق الإغتيال، من دون أن ننسى التهم التي لاحقته من خصومه في نهاية حياته، بشأن ضلوعه بتزويد المعارضة السورية بالسلاح، والتهديدات التي وُجّهت إليه عند إلقاء القبض على الوزير السابق ميشال سماحة. والحزن الذي أصاب أنصار تيّار "المستقبل" عند إغتيال الحسن، خير دليل على موقعه بالنسبة إلى الحلفاء والخصوم على السواء.
في الخلاصة، لا شكّ أنّ التركيز من جديد على دور ما للعقيد الراحل الحسن في جريمة إغتيال الحريري، هي محاولة لزيادة شكوك المواطنين بجدّية التحقيق الدولي الذي لا يخفى على أحد أنّه تعرّض لكثير من المطبّات، جرى خلالها تسريب محاضر سرّية، وتغيير الكثير من المحقّقين لأسباب مختلفة، منها سهولة إنقيادهم بالمال وبحبّ الظهور الإعلامي. وإعتباراً من التاسع من كانون الثاني المقبل، موعد المؤتمر الإعلامي التمهيدي لإنطلاق المداخلات الإفتتاحية لفريق الإدعاء في 16 منه، والتي ستليها مداخلات لممثّلي الضحايا، ومداخلة محتملة من جهة الدفاع، سنشهد الكثير من الحملات السياسية والإعلامية بخصوص قضيّة إغتيال الحريري، في إطار صراع كبير لم يعد فيه أيّ سلاح محرّماً!