كما هي حال الكثير من الحروب في العالم، تبدّلت معطيات الحرب السورية مع مرور الوقت والإقتراب سريعاً من الذكرى الثالثة لإندلاع الأحداث الدمويّة. وفي هذا السياق، يمكن تسجيل 4 معطيات أساسيّة تغيّرت على مستوى واقع الحرب في سوريا، الأمر الذي من شأنه أن يترك آثاراً جذريّة على مستوى أيّ حل محتمل في المستقبل. ما هي هذه المعطيات؟

أوّلاً: فشل "​الجيش السوري​ الحرّ" في لعب دور المرجعيّة العسكريّة الوحيدة، أو أقلّه الرسميّة، لقوى المعارضة السورية المسلّحة المختلفة، الأمر الذي جعله ضعيفاً ميدانياً، لصالح نموّ الجماعات المسلّحة الإسلامية المتشدّدة وبعضها من خارج البلاد، والتي إستفادت من دعم مالي كبير ومن التعبئة الدينية التي تعتمدها لجذب "الثوّار". وبات الوجود العسكري للعناصر النظاميّة المنشقّة عن الجيش السوري ضعيفاً ومحدوداً جغرافياً، ما أفقد قيادة "الجيش السوري الحر"، والقوى السياسية السورية المعارضة التي تدعمه وتتبنّاه، ورقة تفاوضيّة مهمّة مع النظام السوري، وحتى مع الدول العربيّة والغربيّة التي تتعاطف معها.

ثانياً: إنّ نموّ وتوسّع سيطرة الجماعات المسلّحة المتشدّدة، مثل تنظيمي "​جبهة النصرة​" و"الدولة الإسلامية في العراق والشام" (معروفة إختصاراً بإسم "​داعش​")، بموازاة تصاعد نفوذ العديد من "أمراء" البلدات والشوارع، شتّت المعارضة السورية إلى "معارضات" متناحرة في ما بينها، بعضها لا يقاوم الجيش النظامي بقدر ما يقوم بأعمال إرهابية من قتل وخطف وسرقة. وهذا ما جعل الدول الغربيّة التي كانت متردّدة في دعم المعارضة السورية في بداية الأزمة، تزداد إقتناعاً بعقم المراهنة على مناهضي النظام السوري لإحداث أيّ تغيير ديمقراطي في سوريا، ما يعني تراجع الدعم اللوجستي للمعارضة أكثر فأكثر.

ثالثاً: إنّ الجيش السوري الذي إستفاد من دعم خارجي كبير، بالسلاح والعتاد وبالعناصر المقاتلة، صار أكثر قدرة على المبادرة إلى الهجوم في أكثر من جبهة قتال على إمتداد الخريطة السورية. ولم يعد يوجد أيّ خوف من إنهيار الوحدات التي حافظت على ولائها للنظام، ولا من تمكّن المعارضة من إحداث أيّ خرق ميداني جذري. فأكثر ما يمكن حصوله وفق المعطيات الحالية، هو دخول عناصر معارضة مسلّحة إلى موقع هنا أو إلى بلدة هناك، من دون أيّ تأثير يُذكر على مجريات المعركة الإستراتيجيّة. وهذا ما أدّى إلى تصلّب مواقف الرئيس بشّار الأسد من مسألة الحلول المطروحة للخروج من الأزمة.

رابعاً: إنّ دخول الولايات المتحدة الأميركية في فترة مهادنة مع إيران، وتضعضع الدول العربيّة نتيجة تضارب مصالحها إزاء "الإنتفاضات الشعبيّة" التي قامت في كل من تونس ومصر وليبيا وسوريا في السنوات القليلة الماضية، وتراجع تركيا عن كثير من رهاناتها بفعل الحساسيّة العرقيّة الكردية وغيرها من المشاكل الدقيقة ومنها بطابع داخلي، جعل الساحة السورية خالية لصالح القوى والدول المؤيّدة للنظام، وفي طليعتها إيران وروسيا، على حساب تراجع دور القوى والدول المؤيّدة للمعارضة. وهذا ما أسفر عن فقدان القدرة على الضغط على القيادة السورية، لحملها إلى تقديم تنازلات، بسبب غياب التوازن في حجم الضغوط المتبادلة.

وفي ظلّ هذه التحوّلات الكبرى في المعطيات العسكرية والسياسية التي تُشكّل ركيزة الصراع الدائر في سوريا، لم يعد الحلّ المقترح حالياً ما كان عليه منذ سنتين مثلاً. فلا أمل اليوم بأن تتمكّن المعارضة من قلب المعطيات العسكرية، لإجبار الرئيس السوري على التنحّي، كما كان الرهان في بداية الأزمة السورية. لذلك بدأ الحديث في الدوائر الغربيّة عن حل بديل، يتمثّل في إعادة الكرة إلى ملعب الجيش السوري النظامي لجهة أن يكون ركيزة أيّ حل مقبل، مع محاولة إستثناء الرئيس الأسد عنه. لكن ما سها عن بال هذه الدوائر الغربيّة أنّ تركيبة النظام السوري هي تركيبة أمنية إستخباريّة، يقود فيها قيادة الجيش السوري، ضبّاط موالون تماماً للرئيس الأسد، وبعضهم من الأنسباء المباشرين له، وهذا يعني عدم إمكان الفصل بين الجيش والرئيس في أيّ حلّ مقترح. وأمام هذه المعضلة، ولأنّ الغلبة حالياً داخل "المعارضات" السورية المتعددة هي للمتشدّدين وللذين لا يؤمنون بأيّ حلول دبلوماسية، فإنّ الأزمة مرشّحة للإستمرار والمراوغة لفترة طويلة، ستكون الكلمة فيها للغة السلاح فقط لا غير، خاصة وأنّ النظام السوري لا يمانع ذلك، بعد أنّ رأى النتائج الإيجابية لسياسته المتمثّلة بعسكرة "الثورة" السورية، ولأنّه مقتنع بأنّ النصر سيكون حليفه في نهاية المطاف، خاصة وأنّ حلفاءه مصمّمون على دعمه ميدانياً حتى النهاية. في المقابل ترى "المعارضات" السورية المسلّحة أنّ الخيار الأفضل هو التمسّك بالسلاح، وبحرب الإستنزاف التي تخوضها، في إنتظار ظروف أفضل ومعطيات أخرى قد تتحوّل لصالحها في المستقبل. وبالتالي من يراهن على مؤتمر "جنيف 2"، أو بالأحرى مؤتمر "مونترو 1"، بعد نقل المؤتمر إلى مدينة سويسرية أخرى بسبب إزدحام الفنادق في جنيف في 22 كانون الأوّل المقبل لمناسبة إقتصادية محلّية، لا يراهن إلا على سراب حل... لا تزال أسسه بعيدة وغير ناضجة بعد.