إنها ليست المرة الأولى التي يخوض فيها رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي معركة عسكرية ضد «أوكار» الإرهاب خلال ولايتي حكمه إلا أن المعركة التي يخوضها اليوم في محافظة الأنبار وهي أكبر المحافظات العراقية حيث تمثّل ثلث مساحة العراق وفي صحرائها تنتشر معسكرات لتدريب القاعدة وهي تتاخم الحدود السورية غرباً أي الامتداد الذي لطالما كان مسرباً مهماً للمسلحين وللسيارات المتفجرة ما هدّد الأمن الداخلي العراقي طيلة السنوات الماضية - الأمر الذي بدوره هدد العلاقات السورية ـ العراقية حينها وهي تعتبر أم المعارك.

عملية الأنبار العسكرية الواسعة والمستمرة منذ أيام على خلفية محاولات فضّ اعتصام الفلوجة وإزالة الخيم المنصوبة هناك منذ حوالى السنة إذ لم تفلح كل الاتصالات التي أجرتها الحكومة العراقية مع ممثلي العشائر الموجودة في تلك المنطقة إضافة إلى منسقي هذا الاعتصام كل هذه المحاولات باءت بالفشل نتيجة التعنّت الذي طبع أداء الجانبين.

لقد رفع أهالي الأنبار شعارات عالية السقف يتحدون فيها وجود المالكي في السلطة ومستعملين خطابا اعتبره رئيس الوزراء خطاباً طائفياً وتحريضياً أكثر منه مطلبياً مدفوعاً من دول إقليمية في محاولة لرسم سيناريو يتماهى مع الخطاب الطائفي السائد في المنطقة واستكمالاً للمخطط الجاري في سورية. أما وجهة نظر العشائر الموجودة في تلك المنطقة والتي تُشهد لها محاربتها الاحتلال الأميركي منذ سنوات تتمثل في أنها تتعرّض كـ«طائفة السّنة» إلى التهميش والعزلة السياسية والملاحقة القانونية لمسؤوليها تحت ذريعة الإرهاب من دون محاكمات قانونية عادلة وآخرها كان اعتقال النائب عن محافظة الأنبار أحمد العلواني بحجة التواصل مع الإرهابيين وهو الحادث الذي دفع بقائمة «متحدون» التي ينتمي لها وتتكون من 44 نائباً لتقديم استقالاتهم إضافة إلى انسحاب رئيس مجلس النواب أسامة النجيفي من وثيقة الشرف الموقعة بين الأطراف السياسية لحماية السلم الأهلي .

هذا السلم الأهلي الهشّ والذي لم تفلح معه كل محاولات الضرب من حديد أن تمنع ظهور أعلام ومسلحي القاعدة الذين يتجولون في شوارع الفلوجة والذي يقال أنهم تمكنوا من السيطرة على نصف المدينة ولا انتشار مسلحي» داعش» في المدينة والذين استغلوا انسحاب الجيش منذ أيام من داخل المدن وتركها لقوات الشرطة بالدفاع عنها فإذا بالأمور تخرج عن السيطرة وتبدو بعض مناطق محافظة الأنبار وكأنها مناطق خارجة عن سلطة الدولة وعاصية عليها. في هذه الظروف وبغضّ النظر عن صوابية القرار المُتخذ من الحكومة المركزية عن طريقة فضّ الاعتصام والمبرّرات التي سيقت حولها فإن ما يجري في الأنبار من مواجهات شرسة يُنبئ بأيام صعبة للغاية سوف يعيشها العراق في القابل من الأيام والذي يعيد إلى الأذهان صورة دورات العنف التي ضربت العراق في السنوات الأولى بعد الاحتلال الأميركي إلا أن الوضع اليوم يبدو مختلفاً ومهمة المالكي تبدو شاقة في ظل الامتعاض الشعبي تجاه التعامل مع المعتصمين ومحاولة نقل تجربة فضّ اعتصام ساحة «رابعة العدوية» في مصر والفوضى التي لم تنتهِ نتيجتها لحدّ الآن ناهيك عن التكتل المهم للقوى السّنية مع بعضها البعض ومحاولة تظهير ما يجري الآن على أنه لأغراض انتخابية وليس لمحاربة القاعدة والإرهاب وهو ايضاً محاولة لشدّ العصب الطائفي في» الزمن» الانتخابي القريب!

لكن اللعبة الانتخابية اليوم والتي تخوضها كل الأطراف على طريقتها سوف تكون تكلفتها عالية جداً لأن خيوطها متشابكة إقليمياً وهي تمتد من لبنان وسورية وصولاً إلى العراق وبتمويل خارجي من دول إقليمية سخية بدماء البشر وبمواجهة عدو تتمدد أذرعته بكل الاتجاهات حتى يبدو أنه كلما قطعت ذراعاً التفّت أخرى.

ما قام به المالكي في الأنبار مغامرة خطرة ـ لكن لا بدّ منها - إلا أن الخوف من عدم إمكان وضع حدّ لما بدأ به من ملاحقة بعض الأوكار الإرهابية في المنطقة وتحويل الأمر إلى مواجهات مسلحة مع مسلحي القاعدة والتنظيمات المسلحة الأخرى التي انتشرت بطريقة قد يكون من الصعب حصارها إلا بمساعدة والتفاف اهالي المنطقة والعشائر حول الجيش العراقي ودعمهم له وتقع هذه المسؤولية على عاتق المالكي بتطمين سكان ل محافظة الأنبار بأن الهدف هو حمايتهم من الإرهابيين الذين تسللوا إلى بيوتهم وليس تسجيل انتصارات تفوح منها رائحة الانتخابات وهوس السلطة وعلى الطرف الآخر أيضاً ينبغي عدم تبنّي خطاب طائفي مقيت يُخرج الأفاعي من أوكارها ظناً أن» اللّسعة» سوف تقتل آخرين ولن تطالهم والدعوة الى الالتفاف حول القوات الحكومية واعتماد برنامج وطني صرف لا امتداد إقليمياً خلفه في محاولة لإنقاذ ما تبقى من «نظرية» السِلم الداخلي والأمن القومي... المزعوم!