أبدأ مقالتي بعنوان لأغنية محبّبة للسيدة فيروز تُجسِّد حقيقة ما نختبره اليوم من شدّ حبال في مسألة ما يسمى "المداورة"، التي تحوّلت موضوع الساعة ومادة دسمة للسجال، الى درجة تحوَّل من كان يتمسَّك بحقائب منذ اكثر من 20 عاماً المدافع الاول عن مفهوم المداورة، وبلغت العقدة درجة عرقَلت ولادة الحكومة المنتظرة محلياً ودولياً.
إلّا أنّ السجال لم يغص عميقاً في اصول مفهوم المداورة وأسُسها، وفي النتائج المرجو تحقيقها من تطبيقها راهناً، فإذا كان المقصود السير بها لتحقيق مزيد من الديموقراطية والشفافية والمشاركة في أداء الواجب، فمن المستبعد أن تتمكن حكومة الاشهر القليلة من تفعيل كل ذلك، وهي حكومة تأتي بمهمة سياسية وحيدة: الاشراف على الانتخابات الرئاسية.
وبعيداً من الاتهامات والتخوين، فإنّ أيّ حديث عن المداورة لن يكون فاعلاً ما لم يَقترن بتحليل الارضية والوقائع المتصلة بها. إنّ المداورة الحقيقية تعني بالمعنى الاداري أن تتغيَّر كل عقلية إدارة المؤسسة والسياسة العامة ايضاً.
فمثلاً عند تغيير رئيس الولايات المتحدة تتغيَّر معه مئات الوظائف في الجهاز الاداري، وبالتالي يكون التغيير جذرياً. أما في لبنان فمبدأ المداورة هو تغيير شكلي حيث يتغيَّر الوزير مع الإبقاء على جميع المديرين العامين وموظفي الفئة الاولى في مراكزهم.
إنّ الممارسة الادارية في أيّ وزارة تُثبت أنّ للموظفين الثابيتن وللمديرين تأثيراً كبيراً في تأمين شفافية الحكم، حيث ترى أنّ العقليات متحكّمة بهذه الادارت منذ عقود وذلك بسبب استمرار رأس الادارة في منصبه من عهد الى آخر، وبالتالي فإنّ المداورة لن تكون فاعلة ما لم تأتِ عبر سلة واحدة، أي الوزير وهو الرأس السياسي الذي يضع الخطط للإدارة، والمدير العام وهو الذراع التنفيذي لها.
وبالتالي، فإنّ المداورة وحدها لن تؤمّن المطلوب، بل يجب أن تقترن عملية "تغيير الدم" بمداورة شاملة بدءاً من المدير العام الى الموظفين الاساسيّين، على أن يترافق ذلك مع إجراءات جديدة مختلفة عن القديمة، تؤمّن شفافية وانسيابية للعمل الاداري، أي إعادة هندسة الاجراءات التي كانت موضوعة اساساً من "المتهم"، كما تحديد الواجبات والمسؤوليات عبر كتابة التوصيف الوظيفي الصحيح مقروناً بلائحة مهمات محدّدة تنقل الوزارة بطريقة فاعلة الى عصر الشفافية والانتاجية.ماذا عن ادارات المؤسسات العامة او "الخاصة" التي تستفيد من المال العام وتقبض رسوماً وضرائب وتصرفها كما تشاء من مرفأ بيروت الى معهد البحوث الصناعية؟! ماذا عن السفراء، وما أدراكم بمداورة السفراء.
إنّ المطالبين اليوم بالمداورة يدركون جيداً أنّ مجرّد حصر الموضوع بوزارة الطاقة وتصويرها على أنّها وحدها تضمن تداول الحكم الصحيح والشفافية، يشبه الى حدّ بعيد مَن يشطف الدرج من تحت الى فوق، أو مَن استيقظ فجأة من سبات عميق بعد "كوما" استمرت سنوات، ليصرخ تائباً أنّه وجد الحلّ السحري لمشاكل هذا البلد.
إنّ ربط المداورة بسلة اصلاحات شاملة وحدها تستطيع أن تُقنع المواطن الصامت لا وكما أُحبّ أن أسمّيه المواطن الصامت قسراً، بأنّ النية الفعلية للمداورة هي تحقيق الشفافية والاصلاح، فمن دونها لا يبدو أنّ هناك نية حقيقية عند احد لاصلاح ولو جزء يسير من ممارسات الماضي التي اوصلتنا الى عجز مالي فاضح.
نحن متهمون اليوم كفريق سياسي بأننا لم نثُر على المداورة إلّا عندما وصل الموس الى رقبة وزارة معينة، ولكن بالطبع عندما تصبح حصة التكتل ستين في المئة أقلّ مما هي عليه اليوم، يُصرّ التكتل على الوزارة التي تكلّف المكلف اللبناني خسارة أكثر من 5 ملايين دولار يومياً، ومن هذا الباب يأتي حرص التكتل على تسريع واستكمال خطة وزارة الطاقة في محاولة منه لتحديد خسارة المجتمع اللبناني. طبعاً نحن لسنا الوحيدين الذين بإمكاننا أن نؤمن الطاقة وأن نبدأ بإنتاج الغاز ولكننا حتماً الاسرع في الظروف الحالية.
علماً أنني اكره مبدأ الدفاع عن النفس وكأننا نشعر بذنب ما لتمسّكنا بحق اكمال ما بدأناه من خطة في وزارة كان يرفضها أيّ طرف سياسي كونها عقدة العقد، وفجأة تحولت إلى الوزارة الذهبية.
يجب على الجميع اليوم النظر الى المداورة من الباب العلمي وتطوير الادارة وزيادة الفعالية وليس فقط من باب تقاسم الغنائم والحصص، واذا كانت المداورة مطلباً حقيقياً من الجميع فليُصَر الى اعداد مشروع قانون يُكرّسها بأسُس قانونية ودستورية، وهذا المطلب كنا اول من نادينا به وذهبنا الى درجة تقديم مشروع قانون بفصل النيابة عن الوزارة ولكنه لا يزال ينتظر في الادراج.
وبالتالي إنّ اقرار قانون صريح وواضح يلزم الجميع بمبدأ المداورة ليس فقط في الوزارات بل على أسُس واضحة منعاً لأيّ اجحاف، ويكون بمباركة جميع الكتل السياسية. وسنستعين برأي الناس للوقوف على موقفهم من قانون المداورة وسنستفتيهم من خلال المرصد اللبناني للشفافية عبر الانترنت.
ولكن يجب قبل ذلك تقديم مشروع حول آلية متكاملة للمداورة وعندها كما اعتقد، فإنّ المطالبين بالمداورة اليوم سيتحوّلون ربما رافضين للمبدأ، وعندها يتبيَّن أنّ الموضوع كان مناورة وليس مداورة. وأتمنى على الكتل التي تطالب بالمداورة تقديم مشروع القانون، عندها نقتنع ونعتذر.
اما السؤال الاهم فهو هل أنّ التمسك بمبدأ المداورة في هذا الظرف بالذات هو لتأخير بدء انتاج الطاقة لإبقاء لبنان رهينة الضغوط الاقتصادية، لفرض شروط اقليمية معينة؟ وأخيراً اسأل مَن يسمع كلمة مداورة هل يعتقد أننا دول او مجتمعات عدة "تداور" على البلد، وأننا اصبحنا على قناعة بأننا لسنا مجتمعاً واحداً موحداً، بل مجتمعات لا يربطها رابط تتناوب على وزارات لبنان؟