لم تكن مدّة تولّي الوزير ​غابي ليون​ حقيبة الثقافة الوزارية بالفترة الهادئة. فعدد كبير من الملفات التي فتحها أو استكملها حصدت ردّات فعل سلبية جداً من بعض الناشطين في حقل المدافعة عمّا تبقى من أثار مدينة بيروت. هي ردّات فعل، حملتها جمعية "التجمع لحماية التراث في لبنان" إلى القضاء اللبناني، وهي اليوم تطالب المجتمع المدني للإنضمام إلى دعوتها لمحاسبة الوزير ليون على ما قام به في السنوات الأخيرة.

ملف تلو الآخر يشرحه ​رجا نجيم​، الناشط في الجمعية، ولو أردنا الخوض فيها كلها لما اتسع المجال أمامنا لذلك. ينتقد أولاً عملية "إقفال بيروت على البعثات الأجنبية والجامعات، واستبدال ذلك بالعلاقة المباشرة بين الشركة التي تقوم بالحفرية وصاحب الأرض، فتبقى حينها المديرية العامة للأثار لمراقبة العقد". ويقول: "بمجرد العلاقة المباشرة بين شركة خاصة وصاحب عقار، لا يعود بالإمكان السيطرة على حقيقة تفسير المواد المكتشفة وعلى إمكانية الإتفاق بين الجانبين لتكسير وغض النظر على بعض الأمور". وإذ يعترف أن ذلك بدأ على عهد وزراء سابقين، يرى أن "الوزير ليون أعطى لهذا الأمر الغطاء الكامل".

يفتشون عن دور في المجتمع

الوزير ليون يرفض كل التهم الموجّهة ضدّه، معتبراً أن من يشتكي عليه اليوم هم "أشخاص يعانون من جهل كامل وعدم الإختصاص، ويفتشون على دور لهم في المجتمع"، ويعيد الحراك الجديد الذي يقوم به المجتمع المدني ضده إلى ربحه للدعاوى القضائية. ويشرح أن "موضوع ميدان سباق الخيل تم حسمه، وأعطانا القضاء الحق بما قمنا به 100%، وكذلك في موضوع الميناء الفينيقي حيث أكد الخبير الذي عينه مجلس الشورى أن ما من ميناء هناك بل إن ما تم اكتشافه ليس سوى مقلع حجر". أما نجيم، فيتهم الوزير بأنه "يكذب على مجلس الشورى ويقصقص الوقائع في بياناته"، مشيراً إلى أن لديه نقاط إستفهام حول ما قام به مجلس الشورى الذي "وقع تحت ضغوطات معينة". ولكنه يؤكد أن الحكم النهائي لم يصدر بعد، داعياً إلى التمييز بين المرحلة الأولى وهي مرحلة وقف تنفيذ قرار الوزير التي من الصعب الحصول عليها خصوصاً في حالة المينا الفينيقي الذي دمرته الجرّافات بطريقة عبثية، أما المرحلة الثانية التي تقضي ببطلان القرار، فهي ما زالت في المحاكمات، وبالتالي، فإن "اعتبار الوزير أننا خسرنا الملفات في القضاء يستند إلى قرار تمهيدي لا إلى القرار النهائي". ويرى أن "التعويل على مرحلة بطلان القرارات، تتطلب تغيير عقلية مجلس شورى الدولة الذي يحكم على أساس أن الملكية الفردية أهم من الأثار".

الأثار... دمّرت، لم تدمّر؟

هي معركة مفتوحة، تحتدّ وتهدأ ولكنها لا تخمد... والأسباب؟ يلخصها نجيم ببعض أبرز النقاط التي بالنسبة للناشطين، تثير الجدل بطريقة تعاطي ليون معها:

أولاً، مسألة ميدان سبق الخيل الروماني في بيروت، حيث يعترض الناشطون على قرار ليون "دمج موقع أثري بهذا الحجم ضمن مبنى سكني، بل دمج جزء منه دون الأخذ بالإعتبار تكامل عناصره". عملية الدمج هذه يصفها ليون بكونها إحدى إنجازات وزارته، "وهي بمثابة حلم"، لأن "العنصرين الأثريين اللذين تم إيجادهما: السبينة ومدرجات، لا يستأهلان استملاك العقار بالكامل، وذلك الميدان يمتد على 7 عقارات، وبالتالي، من المستحيل إعادة تكوينه بالكامل". ويذكر: "على أي حال، مجلس شورى الدولة قد أعطانا الحق".

ثانياً، المرفأ الفينيقي وكيف تم تدميره بعد أن دعا العديد من الأخصائيين للمحافظة عليه، وقد دمّر قبل صدور قرار ليون وقبل مرور المهلة الزمنية المحددة في القانون للطعن بهذا القرار. أما الوزير فينفي وجود أي ميناء، معتبراً أن "طفلاً صغيراً يعرف أن ما تم إيجاده ليس سوى مقلع حجر". إلا أن الأونسكو كانت قد طالبت أيضاً بالحفاظ عليه لكن ليون يعيد ذلك فقط إلى تسريب فكرة أنه ميناء للأونسكو، ويقول: "أيا من تقول له أنك وجدت ميناء فينيقياً سيدعوك للحفاظ عليه، لكن الأونسكو لم تنزل على الأرض ولم تر". ويقلل الوزير من أهمية التقارير الصادرة عن علماء أثار دوليين يطالبون بالحفاظ على المرفأ مؤكداً أن أحداً منهم لم يقم بزيارة الموقع، الأمر الذي نفاه بشدّة نجيم، موضحاً أنهم من نخبة الأخصائيين في هذا المجال.

ثالثاً، قضية استملاك عقار الـ"لاندمارك"، حيث يعتبر نجيم أن إثارة وزير الثقافة موضوع الإستملاك قد يكون للتغطية على ما جرى في موضوع ميدان سبق الخيل، متسائلاً: "لماذا عدم اتخاذ قرار بوضع العقار على لائحة الجرد العام ولماذا افتعال مشكلة مع صاحب الأرض قبل إكمال الحفرية من قبله؟". لكن ليون يعتبر حجة استخدام موضوع الإستملاك للتغطية على ما جرى في ميدان سباق الخيل بمثابة "سخافة". ويقول: "في تاريخ لبنان، لم يجر عملية استملاك واحدة لعقارات فيها آثار ضمن بيروت إلا في عهد الوزير ليون. فأنا قررت استملاك اللاندمارك حيث وجد: طريق رومانية، تمديدات مائية عائدة لحمامات، مدافن، جزء من سور المدينة، بقايا مبنى برجي الشكل متصلا بالسور، أرضية بازيليك تعود إلى القرن الرابع، منشآت حول الكنيسة، واحتمال أن يكون موقع مدرسة الحقوق الرومانية". لكنه يعود ويشير إلى أن الإستملاك لم يتم "لأن المشروع أعد وأرسل إلى رئاسة مجلس الوزراء للتوقيع، ولم يتم توقيعه بعد لأن الحكومة مستقيلة والثمن كبير". وهنا يشرح نجيم أن وزير المالية قال جهاراً أن ما من إمكانية لإستملاك هذا العقار، ولذلك كان عليه أن يضعه أولا على لائحة الجرد العام قبل القيام بأي شيء آخر، وبالتالي، فإنه لم يسير وفقاً للمسار الصحيح "لكي يتحول هذا الملف إلى قنبلة موقوته لمن هو من بعده".

قال له الوزير: "ديزولي" (أنا آسف)

رابعاً، المبنى الذي كان يسكن فيه أمين معلوف وهُدِم. وفي هذا الإطار، يكشف نجيم أنه تم اتخاذ قرار بعدم الهدم إستناداً لتقرير من 63 صفحة، ثم قدم صاحب الأرض اعتراضاً، فقام الخبراء ذاتهم الذين أعدوا التقرير الأول بالتراجع عن ضرورة الحفاظ عليه بمقطع واحد، رغم عدم تغيّر أي شيء من المعطيات خلال الأشهر الثلاث، واشار أنه "بات واضحاً للعلن أن هذا المبنى مصنوع من الحجر الرملي، وهو آخر مبنى من فترة الثلاثينات الإنتقالية بين استعمال الحجر الرملي والحجر الإسمنتي". ويعتبر نجيم أن هذا الملف تفوح منه رائحة التدخلات والفساد والأخطاء الإدارية.

الوزير ليون ينفي أن يكون ذلك المبنى أثرياً، مشدداً على أن الحجر المصنوع منه هو اسمنتي، أما بعض الجدران فقط فهي من الحجر الرملي. وهنا يتساءل نجيم: لماذا إذاً اعتذر الوزير بعد الهدم من الناشط الإجتماعي ناجي إسبر وقال له "ديزولي" (أنا آسف)؟. أما ليون فيشير إلى أنه حصل على وعد من الذي سينشئ المبنى بأنه سيتضمن مركزاً ثقافياً لأمين معلوف. ويتساءل: "سعيد عقل مثلاً تنقل في 7 منازل في بيروت، فهل على الدولة أن تستملكها كلها؟ وها إن الدولة قد قامت بواجبها واستملكت منزل فيروز لأنه لم يكن ضمن مبنى سكني".

وهكذا تستمر لائحة طويلة لا تنتهي لملفات وملفات، من بينها اتهام ليون بعدم متابعة تعشيب وتنظيف المواقع الأثرية، وعدم إعطائه ملف سرقة بعض المحتويات من متحف جبيل للأنتربول بالسرعة المطلوبة، وبملف المسرح الروماني في بيروت، يردّها كلها الوزير ليون، معتبراً أن أحداً لم يحافظ على الأثار أكثر منه.

يعد نجيم بمتابعة كل هذه الملفات حتى النهاية، مؤكداً ان "المسألة لم تنته بعد... وهناك أمور لا يعرفها الوزير". أما ليون، فيأسف لأن أحداً لا يتحدث عن إنجازاته لأنها ليست بـ"سكوب إعلامي".

وهكذا إذاً يضيع "الشنكاش" وتتوه الحقيقة بين التهم والتهم المضادة، لكن الواقع واحد: فقد بتنا اليوم، وبعد تتالي حكومات ما بعد "الأحداث"، أمام عاصمة لبنانية ذات المباني الضخمة والأبراج المهندسة عصرياً، وما بات بين يدي هذه العاصمة إلا لمحات طفيفة من حلقات تاريخها الطويل. فخوف المجتمع المدني إذا من تهديم القليل المتبقي حق مشروع، ومتابعته لهذه الملفات عين ساهرة في ظل غياب المعارضة بدورها المحدد في المفهوم الديمقراطي الذي ينص على الإهتمام بشؤون الناس وبهمومهم وبثقافتهم، لا بكيفية الحصول على حصّة من هنا أو هناك ولا بشراهة الوصول إلى كرسي أو حقيبة...

وبنهاية المطاف، كل هذه القضايا الموجودة اليوم بين أيدي القضاء، فالقضاء هو الحكم... وأقصى الأمل هو في أن يحكم بضمير!