لم يعد مسموحاً في عصرنا هذا، الجهل المتزايد حول الأمراض النفسية أو نكرانها، فالكثير من هذه الأمراض تتفاقم بعد الإصرار على تجاهلها من قبل كافة الفئات العمرية. وفيما يبدو للبعض أن الأمراض النفسية بسيطة ويمكن تجاهلها، ولا تستأهل الحديث عنها، يجب التنبه إلى أن هذه الأمراض تطبع شخصية الإنسان وتلازمه في حياته الشخصية والإجتماعية. و"الرهاب الاجتماعي" أو "إضطراب القلق الاجتماعي" مرض نفسي منتشر، يجهله الكثير من الناس حتى المصابين به، ويُعتبر من أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً في مجتمعنا.

ما هو؟

يُعرف "الرهاب الاجتماعي" بأنه إضطراب ونوع من المخاوف الشديدة غير المبررة وغير العقلانية تظهر عند قيام الشخص بالحديث أو فعل شيء ما أمام مجموعة من الناس، مثل التحدث أو القيام بسلوك ما أمام الآخرين أو تناول الطعام في مكان عام وكل المواقف التي يشعر فيها الفرد أن الجميع ينظرون إليه، فيخاف أن يظهر عليه الخجل أو الخوف أو أن يخطئ في عمله، مما يؤدي به إلى تجنّب هذه المواقف التي قد يتعرض فيها لتقييم الآخرين ولظهور أعراض القلق والارتباك عليه؛ كما أشارت المعالجة النفسية ​شارلوت خليل​ في حديث لـ"النشرة"، مضيفةً ان "الرهاب الاجتماعي" يرتبط بوجود الحساسية العالية للنقد، والتقييم السلبي للذات، وإنخفاض تأكيد الذات وتقديرها وزيادة مشاعر النقص وضعف المهارات الاجتماعية".

وقسّمت خليل الحالات، إعتماداً على عدد المواقف التي يتجنبها الفرد ويخافها، إلى قسمين، "الرهاب الاجتماعي العام" حيث يخاف الفرد من معظم المواقف الاجتماعية ويتجنبها مثل بدء المحادثة أو الاستمرار فيها، أو الاشتراك في المجموعات الصغيرة، أو التحدث مع شخص يمثل سلطة معينة، أو حضور الحفلات، وغيرها من المواقف المماثلة؛ والقسم الثاني هو "الرهاب الاجتماعي المحدد" الذي يرتبط بالخوف من موقف إجتماعي محدد وتجنبه، وهو أقل شدة من "الرهاب الاجتماعي العام" من حيث مستوى المهارات الاجتماعية، ومستوى التفاعل الاجتماعي لدى الفرد.

كما لفتت إلى ان "هذا الاضطراب يبدأ مبكراً في سن الطفولة أو بداية المراهقة، حيث تبدأ معظم الحالات في الظهور عند سن الـ15 تقريباً. وقد وجدت دراسات مختلفة أن هناك مرحلتين يكثر فيهما ظهور هذا الاضطراب، ما قبل المدرسة على شكل خوف من الغرباء، ومرة أخرى بين 12-17 سنة على شكل مخاوف من النقد والتقويم الاجتماعي، وتندر الإصابة به بعد الـ25 من العمر.

وبالرغم من أن الإصابة بالرهاب الاجتماعي تحدث في هذه المراحل المبكرة، إلا أنه يُعتبر من الاضطرابات النفسية المزمنة التي قد تستمر عشرات السنين، ومع ذلك فإن المصابين بالرهاب الاجتماعي حتى مع علمهم بهذه الحالة، قد يتأخرون في طلب العلاج سنين عديدة، إما بسبب خجلهم من الحالة أو خوفاً من مواجهتها والاعتراف بوجودها.

عوارض عديدة..

وكما كل الأمراض النفسيّة، لـ"الرهاب الإجتماعي" عوارض جمّة، فإضافة إلى الخجل والخوف من الناس وخاصة التجمعات لأكثر من شخصين والانطواء والكآبة المستمرة والملل الدائم والقلق الدائم والنحافة الجسدية عند أكثر المصابين بالرهاب، هناك أيضاً النظر بشك إلى الناس. وغالباً ما يمتنع المصاب بالرهاب عن التعبير عن رأيه، وهذا ناتج عن نظرته السلبية لنفسه وأيضاً الخوف من محاسبة الناس له وتقييم أفكاره. ولفتت المعالجة النفسية شارلوت خليل إلى ان "تصرفات المصاب بالرهاب متناقضة، فهو يحبّ ويكره في نفس الوقت مثلاً".

ومن عوارض "الرهاب الاجتماعي" الجسدية، بالإضافة إلى النحافة هناك تسارع للنبض، والشعور بالغثيان أحياناً خاصة أمام الجمهور، في الحفلات والمناسبات أو حتى في الأسواق، بحسب خليل التي أشارت إلى ان "المريض يشعر بالندم دائماً نتيجة تصرفاته، فهو شديد المراقبة لها، ويقول دائما "يا ريت ما حكيت... يا ريت ما عملت..."، قائلةً: "لا يستطيع هذا الفرد بناء علاقة إجتماعية قوية وصادقة مع أي إنسان حتى مع أقاربه، فهو يشكك في كل شيء وكل إنسان"، لافتةً إلى ان "المريض يميل عادة إلى تضخيم الامور وتهويلها مهما كانت تافهة، وأحياناً يقع في التناقض".

كما تسبب حالة الرهاب والخوف الاجتماعي أعراضاً متفاوتة، مثل احمرار الوجه، ورعشة في اليدين، والإحساس بالغثيان، والتعرق الشديد، والحاجة المفاجئة للذهاب للحمَّام، وعادة ما يعاني المضطرب بالرهاب الاجتماعي من واحد أو أكثر من هذه الأعراض، عندما يتعرض للمناسبة الاجتماعية التي تسبب له الخوف. وفي بعض الحالات، يكون مجرد التفكير في تلك المناسبات سبباً للقلق والخوف.

وفي السياق ذاته، قدّرت خليل نسبة إنتشار الرهاب الاجتماعي بـ11% بين الرجال و15% بين الإناث، أما "الدليل التشخيصي الرابع للإضطرابات النفسية"، فقد أشار إلى أن النسبة تتراوح ما بين 3% إلى 13%، وذلك إعتماداً على الضغوط النفسية التي يتعرض لها الفرد، ونوع وعدد المواقف الاجتماعية التي يخافها ويتجنبها.

ما هي إنعكاسات الرهاب الإجتماعي على الفرد؟

"حذار أن يراك الناس"، "ماذا يقول الناس عنك إذا قمت بهذا العمل؟"، وعبارات أخرى تؤدّي بالفرد إلى عدم التصرف بكامل حريته ولا تكون له الإرادة المطلقة في هذا التصرف، ولكن يبقى يراقب أعين المجتمع بإستمرار وهكذا ينبت ورم الرهاب الاجتماعي، بحسب خليل. وأشارت إلى ان "التربية أو التنشئة الخاطئة للفرد تشكّل سبباً لخوف الفرد من المجتمع، وقد يتعرض إلى التعنيف اللفظي والجسدي المبالغ فيه سواء داخل الأسرة أو في المجتمع وفي المدرسة مما يزيد الأمر تعقيداً"، معتبرةً ان "من أهم العناصر التي يهملها الآباء أثناء عملية التربية هي العمل على زرع الثقة في نفوس أبنائهم والعكس، فنجد بعض الآباء والأمهات يسخرون من أولادهم ويذكّرونهم بقبائحهم بإستمرار، الجسدية منها والمعنوية، فنجد الأب يقول لإبنه: "أنت كسول، جبان، وغبي"، كما تقول الأم لابنها أولابنتها "أنت قبيحة الوجه"، وغيرها من العبارات من دون مراعاة مشاعر الولد البريئة خاصة في فترة الطفولة وخلال العشر سنوات الأولى من العمر وخلال سنين المراهقة، فينشأ عن هذا الأمر نوع من الخجل المبالغ فيه خاصة أمام الناس، بمعنى أن يصير الفرد ينظر إلى نفسه نظرة دونية".

ونقلت عن نتائج إحصائية، أن "نسبة كبيرة من المصابين بالرهاب الاجتماعي عوملوا بقسوة من قبل آبائهم في فترة الطفولة، وأن نسبة تقارب 90% منهم عانوا من إعتداء جسدي بالضرب والتوبيخ في فتره الطفولة، مما زعزع ثقتهم بأنفسهم، وبيّنت تدنياً في مفهوم الذات لديهم في مرحلة المراهقة"، مشددةً على ان "تلك الأساليب التربوية الخاطئة التي تقوم على أساس من التسلط الوالدي والقسوة في التربية وعدم زرع الثقة لدى الطفل، كانت السبب الأبرز في الإصابة بالرهاب الاجتماعي لدى المراهقين، وتدني تقدير الذات لديهم في المستقبل"، مؤكداً انه "من دون علاج طبي ونفسي، من الممكن ان ينتهي هؤلاء الأشخاص بالإنعزال، غير قادرين على إقامة علاقات أو الزواج أو حتى التمتّع بالحياة، ومن الممكن أيضاً ان يطوّروا مشاكل أخرى مثل الإكتئاب والإدمان، وممكن أيضاً ان يترافق برهابات أخرى".

كيف يمكن علاج "الرهاب الإجتماعي"؟

لا تزال الكثير من أمراض النفس قيد البحث والدراسة، ورغم تطوّر علم النفس الحديث، إلا أنه لم يجد الحل النهائي للكثير منها كـ"الرهاب الاجتماعي". كما ان الكثير من الدراسات تحذّر من تفاقم حالة المريض الذي لم يستطع الخضوع للعلاج، وتحذّر أيضاً من الإهمال أو التفريط في العلاج. فما هو العلاج المثالي للرهاب؟

خليل رأت ان "العلاج الأنجع هو العلاج النفسي الذي يبدأ بتصحيح نظرة المريض الخاطئة لنفسه، وتصحيح نظرته إلى الناس وإلى المجتمع"، لافتةً إلى "وجوب تجنّب الأشخاص توجيه الملاحظات للفرد المريض، وعدم تذكيره الدائم بمخاوفه والإمتناع عن إجباره على مواجهة مخاوف يخشاها، لأن إجباره على ذلك قبل ان يصبح مستعداً، من شأنه ان يزيد من إضطرابه"، مشيرةً إلى "ضرورة عدم إظهار أي نوع من الشفقة، لأن ذلك يزيد من قناعة الفرد بضعفه مما يزيد من قلّة ثقته بنفسه"، قائلةً: "يجب إقناع هذا الفرد بضرورة إستشارة أخصائي نفسي".

هذا الإضطراب النفسي حطّم حياة الكثير من الشباب ودفعهم إلى الإنعزال التام عن محيطهم، وأوصلهم إلى ذلك الإعتقاد الخاطئ بأنّ هذا الإضطراب هو نتيجة ضعف وليس أكثر من مجرّد سلوك يمكن التحكّم به. كما ان عدم تفهّم المجتمع والأهل لهذه الحالة، من شأنه ان يزيد من الإضطراب وان يدفع المريض إلى الإكتئاب، من هنا ضرورة التوعية في المجتمع لكي نتمكّن من مساعدة أكبر عدد من المصابين بـ"الرهاب الإجتماعي"، الذي يمكن ان يحرم المصاب به من عيش حياة طبيعية.