شكلت وثيقة الثوابت الوطنية التي أصدرتها البطريركية المارونية بمناسبة عيد شفيع الطائفة القديس مارون مدخلا فعليا الى تلاقيات وطنية واسعة من مختلف الطوائف والمذاهب والاتجاهات السياسية، بفضل المضامين الواضحة والعناوين الصريحة التي تضمنتها وركزت عليها كثوابت صلبة في مسيرة الموارنة، كطائفة، وكمواطنين، ومن حيث هم قومية خاصة ذات كيانية عقيدية وخيارات بنائية، انتهجها الموارنة في فكرهم وتراثهم وسلوكياتهم السياسية منذ نشاتهم، التي هي نشاة متلازمة مع الحدية والتفاعل مع المحيط على قاعدة التكامل والحرص على الخصوصية، بعيدا عن الانغلاقية، ورفضا للتهميش ومحاولات الالغاء والالحاق.

إنّ القيمة المعنوية والوطنية والروحية "لوثيقة الثوابت" هي في أنّها أبعد من الهمّ الماروني واوسع من انشغالات المسيحيين، ذلك لأنّها تفكر وطنيًا وتعالج وطنيا، وتطرح وطنيا، شعورا من سيد بكركي نيافة الكاردينال بشارة الراعي، انه معني بلبنان بكل مفاصله وانه معني بكل هموم اللبنانيين، قناعة من"نيافته أن الحالة اللبنانية، بتوافقاتها وتنوعاتها الفسيفسائية هي النمط الايقوني الذي يجب الحرص عليه والدفاع عنه كنموذج حضاري ومثال انساني غني بالتمايزات.

والمخاطرة المفصلية الاولى التي تحضرنا في لحظة فهم هذه الوثيقة التي تستحق أن تنعقد حولها لقاءات فكرية، لدرس مضامينها، واكتشاف المسكوت عنه فيها، هي هل انها تحمل تصويبات نقدية للمسار السياسي العام في البلد؟ وهل بين حروفها ثمة دعوة لاعادة نظر جذرية في اتفاق الطائف الذي اثبتت الايام انه ليس "وثيقة وفاق وطني"، بقدر ما هو وثيقة تنازلات احادية الاتجاه؟؟؟

هذه التساؤلات الوطنية والميثاقية المشروعة، تشكل مدخلا واسعا لمراجعة حتمية ومؤكدة، تتناول اتفاق الطائف بروحيته وابعاده وتطبيقاته المنقوصة، ومقاصده الرمادية، التي تخفي في تفسيراتها نيات واستراتيجيات مرحلية، انعكست ولا تزال تنعكس سلبا على دور المسيحيين وحضورهم الكياني ووجودهم السياسي، فباتوا فئة مُستضعَفة، يتقاسم مغانمها شركاؤهم في الوطن ويتوارث تركتها، الطامعون لاقامة حصر ارث للمسيحيين، على قاعدة التقاسم والتحاصص وتسجيل النقاط في رصيد كل جهة قوية او مستقوية.

ان مذكرة بكركي الوطنية بميثاقيتها وثوابتها، تؤكد على نهائيات كثيرة في فلسفة المواطنة وابعادها التطبيقية، وكيفية التعامل مع الاحداث والظروف الاستثنائية الحادة.

ان القيمة الكيانية لهذه الوثيقة والتي هي الثالثة في تاريخ البطريركية المارونية، بعد المذكرة التي اعلنها البطريرك الياس الحويك (1889-1931)، والمذكرة التي أطلقها البطريرك انطون عريضة (1932-1955)، تتخذ بعدا وطنيا جامعا عابرا للطوائف والمذاهب، شعورا من المرجعية المارونية الاعلى ان المبادرة واجبة في مثل هذه الظروف، خصوصا في ظل حالات الانقسام الداخلي، وما ينعكس عليه من اطماع الخارج والمؤامرات المستوردة من كل صوب.

واذا كانت الغاية الرئيسية من وثيقة الثوابت، هي النهوض بلبنان وإعادة تصويب البوصلة الوطنية نحو معنى هذا الوطن ووظيفته الحضارية ونمطه السياسي، فان المأمول من مختلف الجماعات التي يتشكل منها الكيان اللبناني ان يقولوا كلمتهم الصريحة ويعلنوا مواقفهم، حتى يعرف اللبنانيون على ماذا ينامون وعلى ماذا سيستفيقون... ذات صباح.

* الدكتور ​جورج كلاس​ هو عميد كلية الاعلام منذ العام 2009، وكان قد شغل منصب مدير الفرع الثاني لكلية الاعلام بين العامين 1999 و2005، ومدير عام الأبحاث والدراسات في مجلس النواب بين العامين 2005 و2006. من مؤلفاته: "الصحافة الفكرية" عن دار النهار (1994)، "الصحافة السنوية: نشأتها وتطورها" عن دار الجيل (1996)، "الدليل الى الاعلام الثقافي والفني" عن الجامعة اللبنانية (2005)، "الاعلام الديني" عن الجامعة اللبنانية (2012) وغيرها.