في الشكل، تظهر روسيا البوتينية اليوم قوة توسع هجومية "إمبريالية" داعمة لأنظمة سلطوية، في مواجهة القوى الغربية حاملة قيم "الحرية والديموقراطية". لكن في العمق، يبقى السلوك الروسي الإستراتيجي دفاعياً ومحكوماً بهواجس التاريخ وضرورات الجيوبوليتيك.

تقع نقطة الضعف الإستراتيجية لروسيا في حدودها الهشّة المترامية الأطراف، الممتدة من المحيط الهادئ شرقاً إلى السهل الأوروبي الشمالي غرباً، وبين المحيط المتجمد الشمالي في الشمال والقوقاز وآسيا الوسطى والصين جنوباً، ما حوَّلها تاريخياً إلى مسرح للإجتياحات التي هددت وجودها، من المغول والتتار في منتصف القرن الثالث عشر إلى غزو نابوليون في القرن التاسع عشر واجتياح قوات هتلر في الحرب العالمية الثانية، على الرغم من أن عمقها وامتدادها في قلب الخارطة الأوراسية كان عاملاً إيجابياً أحسنت استخدامه لصد من يغزوها وهزمه.

على هذه الخارطة تقع روسيا في مركز أوراسيا التي حدّدها المفكرون الإستراتيجيون وفي طليعتهم السير هالفورد ماكيندر بمنزلة القلب الذي يجب أن تسيطر عليه القوى الطامحة للتحكم بالعالم. وهي في هذا الموقع دولة مطوّقة. فبسبب كونها كبرى القوى البرية القارية Heartland وغير مجاورة لبحار رئيسية، تحرم من العامل البحري كحاجز أمام الإجتياحات الذي تستفيد منه القوى البحرية Rimland (بريطانيا والولايات المتحدة على سبيل المثال)، وهذا ما يجعلها في حال دائمة من انعدام الأمان والقلق.

هذا الشعور بالقلق يؤكده مؤسس نظرية القوى البحرية ألفرد ماهان الذي رأى أنَّ القوى البرية، وبسبب الخوف من الإجتياحات، تكون محكومة بحتمية التمدد والتوسع بسبب مواطن الضعف في موقعها الإستراتيجي، خاصة وأن شعورها ب "عدم الإكتفاء يأخذ طابعاً هجومياً" لدى هذه القوى وفي طليعتها روسيا. انطلاقاً من هذا المعطى الجغرافي، توسعت روسيا في اتجاه أوروبا الشرقية والوسطى لتصد فرنسا النابوليونية وألمانيا الهتلرية، وتمددت في اتجاه أفغانستان في القرن التاسع عشر لوقف تمدد الأمبراطورية البريطانية البحرية المتمركزة في الهند على شواطئ المحيط الهندي، ونفذت أيضاً من البحر الأسود منذ أيام القياصرة لتصل إلى البحر المتوسط. ولم تنسّ روسيا شرقها حيث بنت ابتداءً من القرن التاسع عشر خطوط السكك الحديدية في اتجاه آسيا الوسطى ومن جبال الأورال إلى المحيط الهادئ مروراً بسيبيريا.

الحدود الجنوبية

شمالاً، يحيطها المحيط المتجمد وهو حدودها الآمنة الوحيدة. وفي الجنوب، كانت المنطقة الممتدة من السهل الهنغاري في الغرب مروراً بأوكرانيا إلى شمال القوقاز وصولاً إلى منشوريا، منطلقاً لغزوات المغول التتار أو "سكان السهوب" في القرن الثالث عشر. وهم الذين حكموا الأراضي الروسية لفترة من الزمن ودمروا كييف عاصمة أوكرانيا اليوم قبل أن يمتد غزوهم إلى أوروبا الشرقية. كان هذا الغزو هو ما مهّد الأرضية لبزوغ عامل انعدام الأمان والقلق في الوجدان الروسي ولتساهل الروس مع الأنظمة الإستبدادية للقياصرة، على اعتبار أن الأمن وصد الغزوات الخارجية هما الأولوية. أما حدودها مع الصين فهي طويلة وهشة لكن الخطر من هناك شبه معدوم نظراً لعدم الفائدة في الدخول إلى سيبيريا من الجهة الصينية ومنغوليا، فضلاً عن صعوبة القدرة عليه.

في الجنوب أيضاً، يفصلها البحر الأسود والقوقاز وبحر قزوين عن تركيا وإيران ما يشكل نسبياً حدوداً آمنة. لكن في جبال القوقاز تواجه روسيا النزعات الإستقلالية لمسلمي المنطقة، كما تبقى عينها على النفوذ التركي الذي يمتد تاريخياً إلى آسيا الوسطى وخاضت معه روسيا صراعات وحروباً. لكن الصراع في خاصرة روسيا الجنوبية ليس مع مجرد نزعة قومية استقلالية فحسب، بل مع الفكر التكفيري المتطرف الآتي من مدارس دينية عربية والذي يؤدي إلى تثوير الحال الإسلامية في روسيا التقليدية تاريخياً بسبب سيادة المذهب الحنفي والطرق الصوفية.

الثغرة القاتلة

تبقى الحدود الغربية مع أوروبا الثغرة الأخطر والقاتلة للأمن القومي الروسي. فمن دول البلطيق شمالاً إلى جبال الكاربات في رومانيا جنوباً يمتد السهل الأوروبي الشمالي وهو الجزء الأهم من السهل الأوروبي الفسيح الممتد من جبال الأورال حتى فرنسا وجبال البيرينيه حيث لا توجد حواجز طبيعية قادرة على صد الغزوات. وهذه المنطقة كانت تاريخياً الممر للغزوات الأوروبية ومنها حربا نابوليون وهتلر. وحتى حين كان الإتحاد السوفياتي يمتد إلى وسط ألمانيا أيام الحرب الباردة، لم توفر المنطقة من موسكو إلى برلين قيمة تُذكر باستثناء المساحة الجغرافية والعمق الإستراتيجي. من هنا اضطرار روسيا إلى التوسع غرباً لصنع مسافة فاصلة عن حدودها وعاصمتها.

فّإذا كان قلب روسيا غير محميٍ كفاية حتى في أيام الإتحاد السوفياتي الذي امتد من ألمانيا إلى المحيط الهادئ وإلى الجنوب في القوقاز وآسيا الوسطى وأفغانستان، فكيف لا يستولي القلق على رؤوس النخب الحاكمة الروسية، في ظل امتداد حلف شمال الأطلسي إلى بولندا ودول أوروبا الوسطى والشرقية وتقلص المسافة الفاصلة بينه وبين العاصمة الروسية إلى أقل من مئة ميل؟ أما السعي الأميركي لنشر الدرع الصاروخية في بولندا ورومانيا على مقربة من أسوار موسكو فيزيد ايضاً من القلق الروسي من هنا يمكن فهم وصف فلاديمير بوتين، عام 2007، سقوط الإتحاد السوفياتي بأنه "كارثة استراتيجية".

فمع سقوط الإتحاد السوفياتي، خسرت روسيا دول البلطيق ودول شرق أوروبا، إضافةً إلى قلب نفوذها الروحي والإستراتيجي، أوكرانيا. وفي حين تبقى بيلاروسيا موالية لروسيا وضمن فلكها، فإن موسكو تحتاج إلى أن تكون أوكرانيا أيضاً في فلك نفوذها الإستراتيجي، رافضةً إمكانية قبولها بأي شكل من الأشكال بانضمامها إلى حلف شمال الأطلسي. يكفي النظر إلى الخريطة والمسافة الفاصلة بين كييف وموسكو لنتيقن من جدية القلق الروسي إزاء الأزمة الأوكرانية. فضلاً عن أن الشريط بين الحدود الأوكرانية وكازاخستان عبر القوقاز لا يبلغ سوى 400 ميل فقط، مما يسهم في خلق ثغرة أخرى لموسكو في حال خسرت سيطرتها على القوقاز.

يرى المحلل الإستراتيجي روبرت كابلان في كتابه "انتقام الجغرافيا" أنه ربما لم يسبق لروسيا أن كانت على هذا القدر من الهشاشة الجغرافية كما هي اليوم. بالتالي إن معاينة الجيوبوليتيك الروسي وأحداث التاريخ القريب والبعيد، تسمح بتفهم ما حصل في أوكرانيا مؤخراً على مسرح حدود روسيا مع أوروبا. وهذا ما يجعل مفكراً بحجم هنري كسينجر يطالب في "الواشنطن بوست" بـ"عدم دخول أوكرانيا حلف شمال الأطلسي وبتعزيز استقلال شبه جزيرة القرم على أن تبقى تحت السيادة الأوكرانية".