لم يُتخذ رسمياً حتى الساعة أي قرار نهائي متعلق بحل مشكلة ​النفايات​ في لبنان، إلا أن الحكومة الحالية لا يمكنها أن تؤجل البت في هذه المسألة...

الوضع بات طارئاً والكل ينتظر أن تبدأ عملها بشكل فعلي لتقرر استراتيجيتها في هذا الخصوص. ورغم انفتاح وزير البيئة محمد المشنوق على كافة الخطط والمشاريع التي تقدّم إليه في هذا السياق من مختلف الأطراف، فإن دفّة الميزان باتت تميل بين المسؤولين عموما إلى إعتماد الخطة الوطنية الشاملة لمعالجة النفايات الصلبة التي أقرّت في الـ2010 التي يصفها المتخصصون في المجالات البيئية بـ"الكارثة الوطنية الشاملة"، كونها مبنية على أساس المحارق.

الخطة الشاملة موضوعة اليوم على جدول أعمال مجلس الوزراء، وقد يتم اقرارها في أي لحظة. ولكن تم الحديث مطولاً عن هذه الخطة، وقد نوقشت مراراً، وغالباً ما كان يتم الإعتراض عليها من قبل الجمعيات البيئية، فيواجهها البعض من أهل الطبقة السياسية المشجّعة للمحارق بتهمة أن هذه الجمعيات تريد الإستفادة مادياً ولا يمكنها تحقيق ذلك من خلال المحارق، فيما تتهم تلك الجمعيات بدورها السياسيين بأن لديهم رغبة في تحقيق أرباح طائلة كون كلفة المحارق مرتفعة. فماذا يقول أهل الإختصاص والعاملون في هذا الحقل عن هذه الخطة في حال اعتمدت؟

قصة "الكارثة الكبيرة" طويلة...

بعضهم يصل إلى حد اعتبار كل المطامر العشوائية المنتشرة في لبنان أقل ضرراً من خطر المحارق في حال أنشئت بحسب الخطة المقترحة، على غرار الدكتورة فيفي كلاب، المتخصصة بعلم البيئة، والتي تشير إلى "أننا بالطبع نريد حل مشكلة هذه المطامر، والوضع لا يمكن أن يستمر على ما هو عليه، لكن المحارق كارثة كبيرة".

وتروي كلاّب قصّة لبنان المعاصر الطويلة مع محاولة الترويج للمحارق، وتقول: "عندما كان الوزير سمير مقبل وزيراً للبيئة، اقترح المحارق وتم إجهاض المشروع بسبب الكلفة المرتفعة، والفكرة بحد ذاتها اضمحلت وكان المجتمع المدني أيضاً معارضاً لها. من ثم أتت مسألة المطامر بدعم من البنك الدولي فرفضناها وقدمنا دراسة علمية ولم يستمعوا إلينا، فاجتمعنا بمجلس الإنماء والإعمار وممثل البنك الدولي في لبنان، وأرادوا الإستمرار في خطتهم إلى أن كتبنا إلى البنك الدولي في نيويورك مؤكدين أنهم لا يحترمون شروط إنشاء المطامر، فأتت ثلاثة شركات للتحقيق، وعلى أثر ذلك أوقف البنك الدولي القرض. ومن جديد، في أيام الوزير محمد رحال، أرادوا التسويق للمحارق، والـUNDP هي التي كانت تدفع بهذا الإتجاه، وهي مؤسسة تساهم في تنمية البلد ومشكورة إذا كان عملها صحيحا ولكن يجب أن تحاسب إذا كان عملها خاطئا، وهي ليست معصومة عن الخطأ كما يريد البعض أن يصورها". وتتابع: "الوزير رحال قبل بالمحارق، خصوصاً وأن المسؤول في هذه المنظمة الدولية، إدغار شهاب، والذي كان مستشارا لرئيس الحكومة آنذاك سعد الحريري، كان مقتنعاً بها. ومن ثم أتت خطة الـ2010، وتم تحضير مشروع قانون لإدارة النفايات الصلبة فظهر وكأنه محضّر بطريقة تهدف لإعتماد المحارق. أما في عهد الوزير السابق ناظم الخوري، فقد حصلنا على وعد منه في البداية أنه ضد المحارق، وبعد أسبوعين من لقائنا به، تفاجأنا بأنه أرسل إلى مجلس الإنماء والإعمار بطلب تحديد استشاري لإبداء الرأي بمسألة المحارق. وحُضِّرَ تقرير بذلك. وعند استقالة الحكومة سارع الوزير مقبل بإرسال الخطة الوطنية الشاملة إلى اللجنة النيابية المصغرة التي تبحث بقانون إدارة النفايات، دون المرور بالحكومة، "للإستئناس" به".

مشاكل كثيرة تتضمنها هذه الخطة بحسب كلاّب التي لا تطلب من المسؤولين سوى الإطلاع عليها لكي يتمكن أهل الإختصاص من مناقشة أصحاب القرار بها.

بترول آخر

عن معرفة أو عن جهل، يصرّ بعض المسؤولين على إيقاع لبنان في أخطاء يمكنه تجنبها عبر النظر إلى ما يتم اللجوء إليه في الدول الغربية. فبحسب الدكتورة نجاة صليبا، المحاضرة في الجامعة الأميركية في بيروت والمتخصصة بالتلوث الهوائي، فإن العالم كلّه يتجه إلى طرق بديلة عن المحارق وإلى التخلص منها. وتعتبر أن "الموضوع بات قديماً جداً وقد تخطته الدول"، قائلة: "لا أعلم لماذا نسير دائماً بالأمور عندما تنتهي الدول الغربية منها. فعندما يسعى العالم للتخلص من المحارق نأتي نحن بها إلى بلدنا". وعن اعتمادها كحل في بعض البلدان حتى اليوم، تشير إلى أن "ذلك ما زال مستمرا بناء على دراسات لحركة الهواء ونوع النفايات التي تحرق"، موضحة أنه "من المهم معرفة ما سيتم حرقه، وعلى الرغم من وجود فلاتر متطورة يجب إبعادها عن الناس ولا يمكن وضعها في منطقة سكنية لأن الغاز يحمل معه الديوكسين الذي لا يُسمح إيجاده في الهواء كلياً".

وإذ لا تستبعد بشكل قاطع إمكانية اللجوء إلى المحارق عند عدم وجود أي وسيلة أخرى للتخلص من النفايات، ترى أنه من الخاطئ حرق النفايات بشكل عشوائي كونها مورد يجب الإستفادة منه، مشجعة اللجوء إلى الفرز والتسبيخ وإعادة التدوير. وتضيف: "من الضروري أن ندرك جيداً أن النفايات هي بترول آخر. فكل العالم يتعامل معها على أنها مورد له... حان الوقت لكي نتقدم".

وتدعو المسؤولين، بدلاً من النظر إلى البلدان التي ما زالت تحرق نفاياتها، إلى النظر إلى تلك التي حلت مشكلتها دون اللجوء إلى الحرق، وليقوموا بدراسة تقييمية مقارنة لتحديد أي الطرق هي الأفضل، متسائلة: "لماذا لا يقارنون الدراسة التي قاموا بها عن المحارق مع دراسة أخرى متعلقة بحل آخر؟"

إنتاج طاقة أو تسخين مياه؟

وفي الواقع، في 11 شباط الماضي، احتفل تحرك "نحو صفر نفايات" الأوروبي بسقوط مشروع إنشاء محرقة في شمال اسبانيا، مذكراً بأن أوروبا المتحدة تعهدت بعدم السماح بأي شكل من الأشكال بحرق أي نوع من النفايات التي يمكن إعادة استخدامها أو إعادة تدويرها.

وينظر أتباع هذا التحرك إلى المحارق الأوروبية كوسيلة يستفيد منها عدد قليل من الفاعلين في البلاد، وتؤمن لهؤلاء الأموال الطائلة، معتبرة أنه لهذا السبب ما زال هناك من يشجعها حتى اليوم.

أما على الصعيد اللبناني، فيؤكد المهندس زياد أبي شاكر الذي يعمل منذ التسعينات في مجال النفايات في لبنان، أنه يمكن الوصول إلى صفر نفايات، ويمكن التوصل إلى عدم الحاجة إلى طمر أو حرق أي شيء. ويضيف: "حتى العوادم يمكن إيجاد حل لها، وقد طورنا تقنية تحولها إلى ألواح يتم استخدامها في إنشاء منازل جاهزة، طاولات، كراسي... إلخ".

يشبّه أبي شاكر حرق النفايات اللبنانية بأنه يقترب أكثر إلى عملية تسخين المياه منه إلى انتاج الطاقة، كون 80% من النفايات العضوية التي تشكل أكثر من نصف نفاياتنا، مؤلفة من المياه، مشيراً إلى ان هذا يحتم على من يريد استخدام المحارق إلزامية حرق سائر أنواع النفايات القابلة لإعادة التدوير كالورق والبلاستيك، علماً أن إعادة تدويرها تؤمن موردا لمئات العائلات اللبنانية. ويذكر بإمكانية استخدام المواد العضوية لتصنيع السماد كون لبنان يستورد السماد من الخارج. وعن سبب عدم البحث بالإتجاه إلى صفر نفايات جدياً يقول: "قالب الجبنة كبير، ومن خلال المحارق يمكنهم صرف مليار ونصف مليون دولار...".

... وفي حال إنشائها؟

أما المتخصص بعلم الجغرافيا البيئية في الجامعة اللبنانية الدكتور أنطوان سمراني، فيعتبر أن المحارق ما زالت تعتبر حلاً، ولكن في حال تم اعتمادها، فيجب أن يترافق ذلك مع شفافية الحصول على المعلومات وعلى مراقبة دائمة ومتابعة لكل ما ينتج عنها. فالصيانة والمراقبة ودراسة الفعالية أمور مهمة جداً لا يمكن التغاضي عنها. ويوضح أن أوروبا تعتمد التخصص في المحارق، إذ لا يمكن حرق كل شيء في مكان واحد، ولا يمكن اللجوء إلى الحرق دون الفرز. سمراني الذي لا يعتبر ذاته معارضاً للمحارق بشكل قطعي، بل هو مع استخدامها مع اتباع شروط دقيقة ومشددة للرقابة والمتابعة، يعتبر أيضاً أن رمي النفايات العضوية، التي تشكل أكثر من 65% من النفايات اللبنانية، في المحرقة، بمثابة تسخين للمياه، ويقول: "لست ضد المحارق ولكن ضد اعتمادها كحل دون مراقبتها وضد رمي النفايات عشوائيا فيها، لكي لا تتحول إلى بداية مشكلة جديدة". أما كلاّب فتتوعد بالوقوف في وجهها بشكل كامل إلا في حالة واحدة، وهي أن يتضمن القانون بنداً جزائياً بالحبس وتجريد من يسوّق اليوم إلى المحارق من المال في حال تثبيت ضررها على الناس.

وفي حال إنشاء المحارق، تتساءل صليبا: "هل لدى الدولة آلات لفحص الغازات التي ستخرج عنها؟ وهل يعلمون الكلفة المرتفعة لهذه الآلات؟" وتضيف: "كلفتها تتخطى كلفة المحرقة... وإذا أشارت الآلات إلى أن معدلات الغازات السامة مرتفعة، فهل سيحاسب من أتى بها؟"

أسئلة كثيرة يطرحها المعنيون من أهل الإختصاص، وتبقى الأيام القليلة المقبلة كفيلة لمعرفة ما إذا سيكون لبنان أمام مشكلة جديدة أو أنه سيصل فعلا إلى حل جذري لمسألة النفايات.