من استمع بتمعُّن للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله وهو يردّ بكل لباقة، لكن بحسم ووضوح، على ما قاله رئيس الجمهورية ميشال سليمان بحق "الثلاثية الذهبية" التي أثبتت جدارتها "الشعب والجيش والمقاومة"، بعد أن اعتبرها "معادلة خشبية"، يدرك أهمية الرسالة التي أراد السيد إيصالها إلى العنوان الصحيح، في خضم الاستحقاق الرئاسي، خصوصاً أن الحزب سبق أن ردّ على كلام سليمان مباشرة.

وترى أوساط متابعة لهذا السجال الذي افتعله الرئيس سليمان، أن تبسيط مسألة انقلابه السياسي تفسّر بشكل منطقي أسباب انتقاله من ضفة خطاب القسم إلى ضفة أخرى معاكسة لها تماماً، إذ إن سليمان، مثل كل سياسي لبناني، يريد أن يضمن لنفسه دوراً مستمراً في الحياة السياسية اللبنانية، إما عن طريق التجديد أو التمديد لولايته الرئاسية، وإما عن طريق إيجاد موقع سياسي مستقبلي له في البلاد، ولعل هذا هو السبب الأساسي للانقلاب الذي مارسه سليمان على مواقفه.

تضيف الأوساط، بنظرة سريعة لا تحتاج إلى كثير تمحيص أو تفحّص، يمكن أخذ "عيّنات" من الذين تولّوا الرئاسة في لبنان، لنعرف على أي أسس ضمن بعضهم مستقبله الرئاسي، وكيف خرج البعض الآخر على الطبقة السياسية، فنبذته من عالمها، وإن بقي في ضمائر وأذهان الناس، علماً أن قلة من الرؤساء اللبنانيين "حضرت السوق" فلم تبعْ ولم تشترِ؛ لكن الكثرة حظيت بفضائح واتهامات تُدخل صاحبها السجن في بلاد غير لبنان.

أول هذه النماذج الانقلابية كان الرئيس بشارة الخوري، الذي تحوّل من "بطل الاستقلال" إلى شقيق "السلطان سليم"، الذي أدى فساده المالي إلى "ثورة بيضاء" منعت التجديد لشقيقه، كان من أركانها الحليفان كمال جنبلاط وكميل شمعون، أوصلت الأخير إلى الرئاسة الأولى، وسرعان ما انقلب شمعون من "فتى العروبة الأغر" إلى مستدعٍ لجنود "المارينز" إلى شواطىء بيروت لحماية حكمه، بعد أن تحوّل حليفه المذكور إلى أشدّ أعدائه، لكن ذلك لم يمنع من تحوله إلى زعيم لبناني من الدرجة الأولى، على عكس الرئيس فؤاد شهاب؛ الرئيس الوحيد الذي اهتم ببناء إدارة حديثة وشفافة تحوّل البلد من مزرعة إلى وطن، فاصطدم بمن سمّاهم "أكلة الجبنة" من أركان الطبقة السياسية المتحكمة، فكان أن فضّل الانزواء في منزله حتى وفاته، فيما نال "تلامذته" من أركان "الشعبة الثانية" الاضطهاد والتشريد.

تضيف: الرئيس السابق أمين الجميل؛ أبرز نموذج على "وفاء اللبنانيين" لكل من يخطىء في ممارسته السلطة.

غبار كثير واتهامات لا حدّ لها أثيرت حول تصرفات الجميل المالية قبل وصوله إلى سدة الرئاسة، خصوصا من جماعة شقيقه الراحل بشير، وبعد جلوسه على كرسي بعبدا قيل الكثير عن صفقة طائرات "البوما" التي كان يُفترض أن تكون فرنسية، فإذا بالنائب عاصم قانصو يكتشف أنها رومانية الصنع. كما أثيرت قضية صفقات السلاح الأميركي التي استهلكت فائض الخزينة حينها، وجرى كلام عن التلاعب بأموال "بنك المشرق"، من دون التثبت من أي تهمة، لأن زعماء الطوائف وأبناءهم فوق المحاسبة.. والأهم من كل ذلك اتفاق السابع عشر من أيار مع العدو "الإسرائيلي"، والذي سار فيه الجميل وأسقطه حلفاء سورية والمقاومة في لبنان.. كل ذلك لم يمنع الرئيس الجميل من أن يكون من زعماء الصف الأول، ورئيساً لأكبر حزب مسيحي (العونيون تيار وليسوا حزباً) تتقاطر القوى والفاعليات لخطب ودّه، ابتداء من السفير الأميركي، وصولاً إلى السفير الإيراني وما بينهما. كما أن للجميل أربعة نواب في البرلمان، جرى تمثيلهم بثلاثة وزراء في الحكومة الحالية.

في المقابل، هناك نموذج مختلف هو الرئيس السابق إميل لحود، الذي ورث الوطنية والعروبة عن والده، الذي كانت بواكير وقفاته انشقاقه عن الفرنسيين وانضمامه إلى حكومة الاستقلال عام 1943. لحود بقي أميناً ووفياً لفكره وقناعاته السياسية خلال وجوده في قيادة الجيش، وخلال السنوات التسع التي أمضاها في قصر بعبدا، حتى أطلقت عليه المقاومة اسم "الرئيس المقاوم"، وهو الرئيس اللبناني الوحيد الذي تحدّى الإملاءات الأميركية وأقفل هاتفه في وجه وزيرة خارجيتها، وأجبر القمة العربية في بيروت على الإبقاء على بند حق العودة للفلسطينيين، لكن لحود منبوذ اليوم، خصوصاً من قبل المسيحيين، وهو لم يتمكّن من إبقاء ابنه لدورة ثانية في مجلس النواب، ولولا رتابة بعض الزيارات التي يقوم بها بعض سياسيي الثامن من آذار لظن كثيرون أن لحود يعيش في مكان بعيد.

لو سألنا أنفسنا: ماذا يفضّل رجل السياسة اللبناني لنفسه نموذجاً للبقاء ضمن "الكادر" السياسي، فإن الجواب معروف، لكن قائد المقاومة انتصر بخطابه الأخير لنموذج لحود، نموذج الرئيس المبدئي الذي لا يحيد عن قناعاته المعلنة، ولا ينقل "البارودة" حسب اتجاه الريح.