إنَّ مَن يُراقب سَيلَ المواقف الإنفعاليّة لبعض الجوانب الدينيّة المُنتميَة إلى المجال الإسلامي، لا سيّما في النصف الأخير من القرن العشرين، أي غُبَّ انتهاء الحرب الباردة وسقوط جدار برلين، يُدرِكُ بِشَكلٍ لا لُبسَ فيه، أنّ تأثير الإسلام الراديكالي وتحكّمه في مفاصل الحياة اليومية باتَ على درَجةٍ كبيرة من الخطورة، وأَنَّ الأمور بدأت تخرِجُ من عِقالِها العقيدي لِتُنذِر بالأَسوأ، وأنّ الهُوَّة الفاصِلة بين المؤَسّسات الدينيّة الرسميّة والجوانب غير الرسميّة، على تنوّعها، باتت سحيقة، وأنّ اجتماع الجوانب مع الأصل على كلمة سَواء غَدا من المُستحيلات في ظِلّ الجنوح المجنون نحو الأصوليّة والتكفير والردّة.

والمُشكلَة الكبيرة في هذا المجال، لا تأتي من الإسلام كَدين حنيف، بَل من غياب النّاظِمة الواحدة في الإسلام، ونعني بها المُنسّقة الرسميّة العَضِلَة، القادرة على الإمساك بِزمام الأمور والتوفيق بين المُتناقضات، وإِيلافِ الفَوارق الناتجة عن تنافُر الآراء والتفاسير المتعلّقة بالعقيدة الواحدة وتضاربها، وفَرمَلَة ِالإنفلات وضبط الأحوال والشّطحات، وتقويم المفاهيم المغلوطة التي تدفع بعجلَة الفكر الديني إلى التدهور والخروج عن الخطّ المُبين والإنزواء في مجموعَة مفاهيم غليظة، قاسية وغيرعقلانية، ينقصها الهدوء والرويّة والمسؤولية، وخَطِّ الأسلوب الذي يمنحُ الواقع الدينيّ المُتعدّد، نوعاً من التوازن والموضوعيّة، ومواجهة المسائل المطروحة والتحديات بطريقة عقلانيّة واقعيّة.

وليس من النّافر القول، إِنَّ الإسلام في أَدَائِه الحاضر، بعيدٌ عن مَنطق النّاظمة الواحدة ما يجعله عُرضَةً لانتقادات تُؤَثّر، بشكلٍ أو بآخر، على إطلالته كدينٍ حَنيف لا يقبَلُ بالزور عقيدةً ولا بالبُهتان قاعِدةً. فالجوانب الدينيّة غير الرسميّة على نموّ مُطّرد، وثقلها العقائدي والسّياسي على ازدياد، وهي مَدينة في إطلالتها السّاحقة على السّاحتين الدينيّة والمَدنيّة، إلى غياب النَّاظمة الواحدة، وتراجع دَور الحكومات في تقديم الخدمات، وإلى قُدرتها على القيام بخدمات ذات طابع إقتصادي أو إجتماعي أو سياسي أو ثقافي، وبالتالي استمالة الشريحة الأوسَع من القاعدة الشعبيّة، وفكّ الإرتباط بينها وبين المؤسّسات الرسميّة، وتحريكها بالإتجاه الذي تُريد.

وليس في الأمر ما يُقلق لو أنَّ هذه الجوانب المُحّرِّكة قادِرَة على التوفيق بين قوَّة العقل ومسؤوليّة الإيمان، شأنها شأن الجِهة الناظِمة، ولكنّ القلق يتأتّى من كَون الجوانب المُحرِّكة، "تُحَرِّك الدّين في الإتجاه الذي تُريدُه في غفلَةٍ من العقل الذي يُفَكّر، والفكر الذي يرصُدُ ويُخطّط" على ما قاله العلاّمة الرّاحل السيّد محمد حسين فضل الله. وخطورة هذه الجوانب المُحَرّكة أنّها لا تحترم الآخر في بُعديه الإيمانيّ والعقيديّ عامّةً، ولا الخطّ العقيدي العامّ للإسلام، ولا الأدبيات الإسلاميّة خاصّةً، فتنسب إلى ذاتها الفضل في الحفاظ على الإسلام والمُسلمين، والحقّ في فهم الإسلام وتفسيره ونشره بطرقها الخاصّة. وخطورتها أيضاً، ودائماً بتوصيف العلامة فضل الله، أنّها تُحَوِّلُ أتباعها إلى مُجرّد أحاسيس وانفعالات وتوتّرات قاسيَة غير عقلانيّة، ينقُصها الهدوء ومسؤوليّة الإيمان الأمر الذي يجعل من الإيمان نفسه خطراً على كُلّ الناس من حولِها.

من هُنا تأتي أهميَّةُ الناظمة الواحدة في ضبط الأحوال، ومواجهة الإنحراف والعمل على سيادة الوئام والإنسجام، ومواجهة ذهنيَة التكفير التي تبشر بها المؤسسات الدينية النافرة، بذهنيَة الإعتدال والإنفتاح بُغيَة العودة بِها إلى الكلمة السَّواء التي تجمع المسلمين تحت رايَة الإيمان الواحد والعقيدة الواحدة.

إنَّ الإسلام قبل غيره، بحاجةٍ إلى هذه الناظمة لأنَّهُ الأَكثرَ تضرّراً من غيابها، ذلِك أنّ المؤمن في بحثه عن الحقيقة الدينيّة، بحاجةٍ إلى مرجعيّة تعليميّة صحيحة، تُمارِسُ واجبها على ضوء الإيمان وتُسَاعده على التمييز والنقد، وتتصدّى بقوّةٍ ووضوح لكُلٍّ طرحٍ مشبوه يُبَلبِلُ إيمان شعبٍ ويُعكّر صَفوه وبساطته، وترسُم الخطّ الفاصِل بين الدّين والسياسة، بحيثُ لا يُسَيَّسُ الدّين ولا تُدَيَّن السياسة.

إلى الآن، لا يبدو بأن ثمّة سُلطة دينيّة إسلاميّة قادرة على ضبط الأحوال وإيقاف السموم التي تحملها الجوانب النّافرة. فهل ينحو الإسلام باتجاه الناظمة الواحدة في المستقبل القريب؟