قالها البطريرك: "أنا ذاهبٌ إلى القُدس لأَقول إنها مدينتنا... القُدسُ مدينتُنا". والقُدسُ كما يعلَم القارئُ، هي التسمية العربية لأورشليم، وللنّاطقين بلغة الضّاد، هي موضِع "العَتبات المقدّسة" التي تَحوي الذّاكرة المسيحيّة التاريخيّة والحيّة؛ فأورشليم، أي القُدس، هي حاضِنَةُ المَهد واللّحد، مهدُ المسيح وقبره، والشاهدة على قيامته، ولِمَن تَخونه الذّاكرة، هي أُمّ الكنائس المسيحيّة كلّها، وفيها تُقيمُ الرعيّة المسيحيّة التي تُعتبرُ بِحقّ "الذاكرة الجماعيّة الحيّة لِقصّة المسيح".

إذاً، يذهبُ البطريرك الماروني، بطريرك إنطاكية وسائر المشرق، إلى القُدس، فَيذهبُ إلى بيته وإلى خاصّته من أبنائه وبناته الموارنة والمسيحيين الذين لهم حقُّ لقائه وعليه واجب رعايتهم. يذهبُ حاملاً إليهم السلام، وداعماً لقضيّة حقّ مسلوبَة من شّعب مقهور. هو مَوقِفٌ جريءٌ حتماً، لا سيّما في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ منطقتنا، وفي بيئَةٍ ترفض التباين والإختلاف وتروم سَوقَ التاريخ باتّجاه واحد، ولكنّه موقفٌ نبويٌّ بامتياز، يَحمل الحقيقة ويأبى الإنقياد لسياسة التسليم بالأمر الواقع والكبت والمحظور التي تُفرَضُ على الشعوب دون إرادتها، وتُملي عليها سلوكيّات لا تقود إلاّ إلى مَزيدٍ من التدهور والسقوط.

جُملة الإنتقادات تلك التي تعرّض لها غبطته من المستتبَعين على غير هُدى، ومِن جهاتٍ عِدّة، إنّما تبدو أشبه بإنتقادات المُنفعلَين إنفعال الخاسر وفاقدي الرؤية السوية والمتساوية لأَمرٍ حقّ؛ فكفى بهؤلاء مبالغة وتهويلا، وتخويفا وتخوينا. ماذا لو احتلّت إسرائيل، لا سَمَح الله، كربلاء أو النّجف الأشرف أو مكة المكرّمة وفرضت أمراً واقعاً، فهل يمتنع الإخوة المسلمون عن زيارة هذه الأماكن بذريعة عدم إعطاء الشرعيّة لهذا المحتلّ، أم أنّهُم بَدَل ذلِك يُصَرّون على زيارتها تأكيداً لإيمانهم ورفضاً لهذا الواقع؟ ألَم يدعُ بالأمس القريب وزير الأوقاف الفلسطيني إلى "زحفٍ إسلاميٍّ عربيّ" إلى المسجد الأقصى "لمُمارَسة الحقوق الدينيّة ولِدعم صمود القُدس..."؟ أَلم يَقُل هو نفسُه إن "على الأُمّة الإسلاميّة أن تُعيد إحياء التواصُل مع القُدس وتشجيع تكثيف الزيارات الدينيّة إليها"؟ حسناً، هذا ما يفعله البطريرك. ويَصحُّ على المسيحيين في زيارة صاحب الغبطة هذه، ما يَصحُّ على الإخوة المسلمين في تأكيد إيمانهم والتمسك بمقاماتهم الدينية دون تشكيك أو تردد.

إنَّ للبطريرك المارونيّ حيثيّته وحريته، وهو لا يُحركه إلاَّ إيمان صَلب بالمسيح المنتصر على الموت، وقضيَةٍ حقّة لا يُغلب صاحبها، وضمير مُستقيم يستند إلى أُسُس الحقيقة ومقتضيات الرسالة "ولَو كَرِه الكارِهون". وعلى المسيحيّين قبل غيرهم، أن يعقلوا هذه الحقيقة وأن يعوا هذا الدور، فلا يُدفَعوا لِمُجامَلة ولا يُستثاروا لِمَنفَعة.

غِبطة البطريرك، قُل كلمتكَ وامشِ.