ليس بالسياسة تحيا الإستحقاقات، وليس بالسياسيين يتمُّ التفكيرُ بصوت مرتفع، فالأفكارُ البنَّاءة والمشاريعُ المنتجة والمقترحاتُ الإيجابية غالباً ما يتقدَّمُ بها فنَّانون ورسَّامون ومُفكِّرون وخبراء ومختصّون وناجحون في أعمالهم.

هذه القطبة المخفيَّة في طريقة إستنباط الأفكار، وضَع يدَهُ عليها الإعلامي الناجح مرسال غانم في برنامجه التلفزيوني الذي صار محطَّ أنظار الجميع من دون إستثناء، فصار مساء كلّ خميس محطةً ثابتة للمواطن في الداخل والمغتربات بعدما تحوَّلت الحوارات فيه إلى مختبرٍ للأفكار ومصنعٍ لها.

حلقةُ أول من أمس كانت مميَّزة وخارجة عن المألوف بكلِّ المقاييس. لم تكتفِ بسياسيين بل جرى إغناؤها بخبراء ومختصّين وفنَّانين أعطوا قيمةً إضافية للمداولات والمناقشات، وأحدثوا فرقاً لاحظه المشاهدون، وأدار الزميل مرسال غانم الحوار في ما بينهم متنقِّلاً بين ما هو سياسي وما هو بيئي وما هو إنساني، ليُبلوِر شخصيته الحقيقية:

النجم المثقَّف بإمتياز.

البارزُ سياسياً في الحلقة كان النائب السابق مخايل الضاهر، وهو أحد أعمدة القانون والدستور في لبنان، تميّزه المواقف الإستثنائية والجريئة.

من مواقفه المتقدِّمة عن الزيارة المرتقبة للبطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي إلى الأراضي المقدَّسة أنَّ أهم دفاع عن الأرض المقدَّسة هو الذهاب إليها وأنَّ البطريرك ذاهبٌ إلى القدس للدفاع عنها.

ومن الكلام في الدفاع عن الكاردينال إلى الكلام في الدفاع عن الدستور وعن السلوك الدستوري، ومن هذه الدفاعات:

لا يجوزُ للنائب التخلّف عن إنتخاب رئيس.

الورقة البيضاء تعني أنَّ النائبَ لا يعجبه أيَّ مارونيٍّ في لبنان، وهذا مستحيل.

ولأنَّ الإستحقاقات الدستورية أخطر من أن تُترَك للسياسيين وحدهم، فإنَّ الزميل مرسال غانم أغنى حلقته بمَن هُم من غير السياسيين، فكانت لهم إسهامات وأفكار عميقة من شأنها أن تُحدِث أكثر من صدمةٍ لدى السياسيين:

من هذه الإسهامات والأفكار:

أنَّ شبابَ لبنان في مكان والسياسيين في مكان.

وأنَّنا نريد لبنان المحاسبة وليس لبنان الطبقة السياسية البالية.

يجبُ أن يكون الإستحقاقُ مرتبطاً بالناس.

ومَن قال إنَّ الإستحقاقَ لا يرتبط بميزات لبنان؟

ربما لهذا السبب شهدت الحلقةُ صرخةً لها علاقة بالمآسي التي سببتها الحرائق التي يرى البعض أنَّها كانت متعمَّدة، فجاءت الصرخة على الشكل التالي:

مَن يعوِّض علينا أجمل محمية خسرناها في بعبدا والجوار؟

عيبٌ علينا أن تحتلَّ علمَنا أرزةٌ خضراء ونحن لا نحافظ على بيئتنا.

على غرار هذا البعد، بدا أنَّ مقاربةَ الإستحقاقِ الرئاسيّ بدأت تأخذ أكثر من منحى، فالسياسةُ فيها ليست كلَّ شيء، لا بل إنَّ السياسةَ أصبحت عاملاً مُعطِّلاً للإستحقاق، بدليل أنَّنا اقتربنا كثيراً من نفاذ المهلة الدستورية فيما السياسيون يتعاطون مع هذا الإستحقاق وكأنه مازال أمامنا الكثير من الوقت. لكن في المقابل فإنَّ معظم المراقبين يلتقون على إعتبار أنَّ كلَّ ما يجري هو محاولة بدت ناجحة حتى الآن لملء الوقت الضائع أو الذي تمَّ تضييعه، للأسف، على كلّ المواطنين الطيبين.