أن تصنّف الدولة منطقة معينة كمنطقة صناعية، هو أمرٌ طبيعي يجري في كل بلدان العالم، ولكن ألا تتخذ الإجراءات الوقائية اللازمة لعدم إنعكاس هذا التصنيف سلباً على صحّة الناس وعلى حياتهم، فهذا لأمر مُستغرب، خصوصاً وأن واجب الحكّام أولاً وأخيراً هو حماية السلامة العامة والخير العام، وإلا، فما الغاية إذاً من الحكم؟

منذ سنوات مضت، تصرخ بلدة شكا بمفردها. فهي التي تستيقظ كل يوم على سعال أطفالها، والتي تربّع المرض في رئتيها، وجعل منها عرشاً له، ما عادت تؤمن بأن هناك من يمكن أن يغيّر فعلاً واقعها. فسالي وريم، المراهقتان اللتان التقينا بهما وهما عائدتان من مدرستهما في البلدة، تؤكدان أنهما ما عادتا تتأثران بكل الروائح والغبار: "لقد اعتدنا على ذلك، فمنطقتنا منطقة صناعية". وإذا كان هذا الإستسلام قد ضرب الشباب، فكم بالحري الكبار في السنّ الذين ينظرون إليك ويتنهدون: "ما بيدنا حيلة"، تماماً مثل جان خوري الذي يشير إلى أن بلدته "هي الأكثر قذارة في الكون"، موضحاً أن "أحداً لا يفتح أي باب أو شبّاك بسبب الغبار".

ولرئيس هيئة حماية البيئة في شكا ​بيار أبي شاهين​ رأي مماثل، إذ يعتبر أنه، ورغم كل النداءات والمطالبات والكتب المفتوحة المرسلة إلى المسؤولين، "الوضع ما زال منكوباً، و"حالتو حالة"، ويستدعي تدخلاً من الأمم المتحدة"، معتبراً أن "المعالجات في هذا البلد لم ولن تجدي نفعاً".

البانوراما ذاتها

ويعدد أبي شاهين المشاكل التي ما زالت هي هي: "أولاً، تفجيرات شركة "الهولسيم" حيث أننا، ومذ كان سمير مقبل وزيراً للبيئة، ونحن نتحدث بهذا الموضوع. فلا أحد يتجاوب معنا، رغم تقديم شكوى إلى وزارة البيئة التي حولتها إلى وزارة الداخلية مما دفعهم إلى تخفيف حدّتها قليلا.

ثانياً، الرائحة الكريهة التي تصدر من شركة الترابة البيضاء، التي لم تعترف حتى الساعة بأنها تلوث، رغم تقرير وزارة البيئة الذي يؤكد أنها مصدر الروائح. وهنا، على البلدية تنفيذ قرار وزارة البيئة بعمل اللازم لإزالة هذه الرائحة.

ثالثاً، غبار "الأميانت" الذي سبب الموت للمئات من ابناء المنطقة والجوار، وهو مشكلة كبيرة لم يصار إلى حلها بشكل جذري، بل تم إقفال شركة الإيترنيت دون نزع المواد التي فيها وفق التقنيات المعتمدة، وبالتالي فالخطر ما زال موجوداً.

رابعاً، المحرقة التي تريد البلدية إقامتها منذ فترة في شكا للتخلص من النفايات، ونحن نسعى للوقوف في وجهها بسبب كلفتها العالية وضررها البيئي. ونعتقد أن البلدية تعرضت للغش من خلال المحرقة والوقت ما زال سانحاً لكي تتراجع عنها.

خامساً، عدم قيام شركة السبع بتغليف مستودع البتروكوك. فبعد مسيرة قضائية طويلة بينها وبين البلدية، ربحت الدعوى، وبالتالي، اصبح بإمكانها تغليف المستودع في مكانه وعدم نقله إلى مكان آخر كما كانت تطالبها البلدية، فلماذا عدم البدء بتنفيذ الدراسة اليوم؟"

وفي هذا السياق، يؤكد المدير الإداري لشركة "السبع" روجيه حداد استعداد الشركة للمرحلة الثانية، أي مرحلة تغليف المستودع بعد مسيرة قضائية دامت أكثر من 14 سنة، ولكنه يشير إلى "ضرورة إعادة النظر بالتصور الذي كان لديهم لهذا التغليف، ومن هنا الحاجة إلى القيام بدراسة جديدة". وإذ يرفض تحديد وقت معيّن لتغليف المستودع بشكل نهائي، يشدد على عدم تلكؤ الشركة في تغليفه بحسب الدراسة الجديدة.

"الحل في يدنا"

وأمام هذه البانوراما، يرى أبي شاهين أن "المعالجة هي بالحوار ولا معالجة إلا بذلك"، وهنا، يشير حداد إلى تقدّم كبير جرى على هذا المستوى، خصوصاً مع المجتمع المدني "الذي بتنا نتحدث معه بشكل آخر". ويؤكد أن التواصل يتم أيضاً بشكل دائم مع البلدية. إلا أن أبي شاهين يعتبر أن "حوار الشركات مع البلديات لا يتم إلا من خلال الترضيات"، لافتاً إلى أن "هذا أمر مرفوض، إذ إنه ليس مطلوباً من الشركات أن تدفع مكافآت للبلدية لكي تستمر بعملها".

وفي جولة قمنا بها في شركة "السبع"، شرح حداد التطور الذي تقوم به الشركة لناحية طرق الإنتاج، كاشفاً عن مشاريع جديدة للشركة بهدف حماية البيئة.

الحق على "الطليان"؟

لا يعوّل أبي شاهين على دور وزارة البيئة "التي لا تقدّم حلولاً كالعادة"، مشدداً على أن "الحلّ في يدنا نحن، ويد من يمكنه إيجاد الحلول كالبلدية والمحافظة، وذلك بالتعاون مع الشركات المنتشرة في البلدة، فدون تعاونها نكون وكأننا نحارب طواحين الهواء: ندخل من الباب فيخرجون من الشباك".

ويتابع: "شكا هي المنطقة الصناعية الأكبر بالنسبة للبنان كله، والصناعات فيها استراتيجية، ونريدها أن تبقى كذلك، ولكننا نريد أن تتزاوج البيئة مع الصناعة".

أما الأهالي فما زالوا منزعجين من واقعهم. مادلين تطالب الدولة "بأن تلعب دورها كدولة لترد كل شيء إلى مكانه. فالأمراض ملأت الدنيا، ونسبتها مرتفعة جداً"، فيما شادي بركات يحمّل مسؤولية إيجاد الحلول للبلدية وأعضائها، بينما يعتبر جان خوري أن الشركات أقوى من البلدية وبالتالي فهي التي يجب مطالبتها بإيجاد مخرج لهذا الواقع.

وفي ظل انقسام الشارع حول سبب التلوث والإهمال، تبقى الآذان مغلقة لعدم سماع مطالب الناس والعيون مكفوفة عمداً، لا تريد أن ترى الجبال المأكولة والمياه الجوفية الملوّثة والغبار المنتشر... وتبقى الوعود وعودًا وهي سيدة الموقف... ويبقى الحق "على الطليان".

تصوير تلفزيوني علاء كنعان