حسناً فعل رئيس تكتل التغيير والإصلاح النيابي اللبناني العماد ميشال عون بإطلاقه مبادرة إنقاذية تشتمل على اقتراح تعديل دستوري محدود يهدف إلى جعل انتخاب الرئيس (الماروني) مباشراً من الشعب، وعلى دورتين، أولى تأهيلية تُجرى على مستوى الناخبين المسيحيين، وثانية تُجرى على المستوى الوطني وتكون محصورة بين الفائزَين الأول والثاني في دورة الاقتراع التأهيلية... وهي مبادرة لا تُحاكي المأزق السياسي الراهن الذي تعيشه البلاد بفعل إخفاق مجلس النواب اللبناني في انتخاب رئيس جديد للجمهورية يخلف الرئيس السابق ميشال سليمان الذي انتهت ولايته في 25 أيار(مايو) الفائت وحسب، بل تشكل خطوة نوعية ومتقدمة في مسيرة الإصلاح السياسي وتعزيز الديموقراطية اللبنانية، من غير المس بطبيعة النظام السياسي ولا بالمقتضيات الميثاقية، وذلك للاعتبارات الآتية:

1- إن انتخاب الرئيس مباشراً من الشعب يؤلف ترجمةً فعلية وحقيقية للفقرة «د» من مقدمة الدستور التي تنص على أن «الشعب مصدر السلطات»، ويعيد بالتالي الأمانة إلى صاحب الحق الأصلي، ويشكل أرقى درجات الممارسة الديموقراطية واحترام الإرادة الشعبية وحق المواطن في المشاركة في القرار الوطني ورسم مستقبله وتكوين السلطة.

2- إن الاقتراح المنوَه به يجعل رئيس الجمهورية رمزاً لوحدة الوطن، كما تصفه المادة 49 من الدستور، فعلاً لا قولاً ، لأنه سينبثق بنتيجة عملية انتخابية يُتاح لجميع الناخبين اللبنانيين المشاركة فيها، وسيكون تعبيراً عن إرادة شعبية وطنية.

3- إن اختيار الرئيس من جانب البرلمان، كما هو الواقع منذ ما قبل الاستقلال اللبناني لغاية اليوم، هو أشبه بعملية تعيين وأبعد ما يكون عن الانتخاب، لأن الهيئة الناخبة مكونة من عدد محدود من الأشخاص، وهؤلاء يوالون زعماء كتلهم وعددهم يوازي أصابع اليد الواحدة، فتأتي تسمية الرئيس نتاج توافق أمزجة أربعة أو خمسة شخصيات وارتباطاتهم الخارجية، فأين هي العملية الانتخابية؟

4- إن جعل الانتخاب الرئاسي مباشراً من الشعب يُخرج عملية اختيار رئيس البلاد من لعبة البازارات المحلية والمساومات الإقليمية والصفقات الدولية ويضعها في رحاب الديموقراطية الحقة، علماً بأن مراجعة الانتخابات الرئاسية منذ الاستقلال لغاية الانتخاب الأخير في 25 أيار (مايو) 2008 تثبت بجلاء أن اختيار رؤساء الجمهورية حصل دوماً بنتيجة تفاهمات إقليمية ودولية مسبقة، ولم تكن جلسات البرلمان إلا مجرد إخراج مسرحي لسيناريو تم إعداده خارج قاعة البرلمان وخارج حدود الوطن، ما عدا استثناء واحد، مبدئياً، في انتخابات 1970.

5- إن الاحتكام إلى الشعب في الانتخاب الرئاسي يلغي إمكانية تعطيل النصاب الدستوري المتوجب لجلسات مجلس النواب المخصصة لانتخاب الرئيس وهو ثلثا أعضاء البرلمان، وكذلك احتمال عجز أي من المرشحين عن كسب تأييد الأكثرية المطلقة من عدد الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً، حتى ولو توافر النصاب المذكور، وذلك من غير الدخول في أخطار خفض النصاب أو فرض إلزامية حضور جلسات الانتخاب أو إنقاص الأكثرية النيابية المطلوبة للفوز وتداعيات ذلك على مشروعية الرئيس الوطنية والميثاقية والتوازنات الطوائفية، علماً بأن الشغور الرئاسي الحالي ليس الأول في لبنان فقد سبقه شغور أول ابتدأ ليل 22 أيلول (سبتمبر) 1988 وامتد لأكثر من سنة، وشغور ثان ابتدأ ليل 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 2007 وامتد لأكثر من ستة أشهر، ونجما عن عدم تفاهم الكتل النيابية على مرشح معين، وبالتالي عدم اكتمال النصاب الدستوري لجلسات البرلمان المخصصة للانتخاب الرئاسي.

6- إن انتخاب الرئيس مباشراً من الشعب لا يقتصر على الأنظمة الرئاسية بل يشمل أيضاً الأنظمة غير الرئاسية، بما فيها الأنظمة البرلمانية أو نصف الرئاسية، بشرط أن تكون للرئيس صلاحيات جادة في السلطة كما في نظامنا، حيث أنه نظام برلماني لكنه مطعم بسمات رئاسية، كون رئيس الجمهورية اللبناني هو رئيس للدولة وأحد رأسي السلطة التنفيذية وشريك في الحكم ولا يزال يملك صلاحيات دستورية أساسية، أبرزها التوقيع على مرسوم تأليف الحكومة، ورد القوانين، وطلب إعادة النظر بقرارات مجلس الوزراء، وترؤس جلسات مجلس الوزراء، وتوجيه رسائل إلى مجلس النواب، والمفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وإبرامها بالاتفاق مع رئيس الحكومة، ومراجعة المجلس الدستوري طعناً بالقوانين، علماً بأن الدول التي لا تزال تختار رئيس الجمهورية بواسطة البرلمان باتت قليلة جداً ولا يملك فيها الرئيس صلاحيات دستورية ولا أيَ سلطة ويقتصر دوره على تولي رئاسة بروتوكولية وفخرية.

7- إن اقتراح الاحتكام إلى الشعب في الانتخاب الرئاسي لا يمس التوازنات الطائفية الراهنة ولا جوهر وثيقة الوفاق الوطني، لأنه لم يشتمل على المطالبة بزيادة صلاحيات رئيس الجمهورية، أو إنقاص صلاحيات المواقع والمؤسسات الدستورية الأخرى أو إلغاء المحاصصة الطائفية الدستورية القائمة.

8- إن الغاية من المرور بدورة تأهيلية أولى تُجرى على مستوى الناخبين المسيحيين، قبل الانتقال إلى دورة الاقتراع الحاسمة على مستوى الناخبين اللبنانيين والتي تُحصر المنافسة فيها بين صاحبي المرتبتين الأولى والثانية في الدورة التأهيلية، هو إلغاء الهاجس من جعل انتخاب الرئيس رهن إرادة الأكثرية الإسلامية في لبنان، علماً بأن مثل هذا الهاجس صار أقل حضوراً، لا بل أنه لم يعد مبرراً، بعدما باتت الانقسامات السياسية طاغية في الساحة الإسلامية، ولم تعد الكتلة الإسلامية صفاً سياسياً وتوجهاً واحداً، وهو أمرٌ مفتوح وطويل المدى ويبدو راسخاً وآخذاً بالتجذر، علماً بأن التأثير الإسلامي في عملية الانتخاب من طريق البرلمان أكبر بكثير من التأثير المسيحي لاعتبارات تتصل في كيفية إنتاج المجلس النيابي.

ومن الجدير أن نذكر أن التشريع سواء أكان عادياً أم دستورياً هو جائز في ظل شغور سدة الرئاسة متى كان يتصل بإعادة تكوين السلطة، كما في الحالة موضوع البحث.

وبعد، لا نغالي إن قلنا، إن من يرفض انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب على دورتين، يعلم تماماً أين تقف الأكثرية المسيحية والأكثرية الوطنية على السواء ويخشى افتضاح أمره.