بعدَما حدّدَ زعيمُ تنظيمِ الدّولة أبو بكر البغدادي - المعروف الآن باسم الخليفة ابراهيم - السّبت الماضي موعدًا نهائيًّا للمسيحيّين الذين لا يُريدون البقاء والعيش في ظلِّ الشّروط الجديدةِ ليغادروا حدود الخلافة، تأكّدَ مرّةً أخرى ألاّ وطنَ لغيرِ التّكفيريّين، في أبجديّات "تنظيمِ الدّولة الإسلاميّة".

فالتّنظيمُ الطّارئُ خيّرَ المسيحيّين بين الدّخولِ في الإسلامِ ودفعِ الجزية، أو الخروجِ من المدينة التي تعايَشوا فيها مع المسلمين منذ نشأتِها... فمَن هُم مسيحيّو ​الموصل​؟ ومتى بدأ اضّطهادُهُم؟ ومَن المسؤولُ عن ذلك؟

إنّهم نحو خمسة وعشرين ألفَ مؤمنٍ، كُتِب لهُم بعد تاريخِهم الحافلِ في المنطقةِ، أنْ يَحمِلوا صليبَهم بشجاعةٍ، ليشهَدوا لإيمانِهم في غيرِ النّواحي المصبوغةِ حديثًا باللونِ التّكفيريّ...

وما كان من هؤلاء إلاّ أنْ انتهَى بهم الأمرُ بالنّزوحِ إلى مدينة أربيل، وسكَنَ معظمُهم المدارس في بلدة "عينكاوة" ذات الغالبيّةِ المسيحيّة، بينما افترش آخرون الأرصفة والبنايات تحت الإنشاء انتظارًا لنقلِهم إلى مخيّماتٍ أو أماكن سكنٍ لائقة.

وفي هذا الإطار يقول وديع سالم، وهو ربّ عائلة لشبكة (سي – أن – أن) السّبت الماضي: "جماعة مسلّحة أوقفتنا في الطّريق ونحن خارجون من منطقتِنا في الموصل، وأخبَرونا على تركِ نقودِنا كلّها، الذّهب، والمجوهرات، وعلى الذّهاب بملابسِنا الّتي نَرتديها فقط".

وأضافَ بأن 40 في المئة من مقاتلي "داعش" في الموصل هم خليطٌ من الجنسيّات العربيّةِ والأجانب، الذي يتولّون القيادةَ، في حين أنّ الباقين هم مجرّد شبابٍ من القرى المحيطةِ بالموصل.

وهكذا أُفرِغَت الموصل، للمرّةِ الأولى في تاريخِها "تحت التّهديدِ بالسّيف"، فانقلبَت معالمُ المدينة العراقيّة، بعدَما سيطرَ عليها التّنظيمُ المتطرّف.

لكنّ "فادي" وهو أستاذ وأبٌ لطفلٍ، رفضَ تركَ الموصل حتّى وإن كلّفه الأمرُ حياته. وقال لوكالة "الصّحافة الفرنسيّة": "نحن ميّتون إنسانيًّا في الأساسِ، ولم يبقَ لنا سوى هذه الرّوح، فإذا أرادوا أنْ يقطعوها، فأنا مستعدّ، لكنّني لا أغادر مدينتي الّتي ولدت فيها وترّبَيْت". وأضاف "فرّت 25 عائلة من أقربائي عن طريق تلكيف والحمدانيّة، لكنّهم تعرّضوا للسّلب ونُهبت كلُّ مقتنياتهم من أموال وذهب وحتى أجهزة الهاتف وملابسهم".

ورُويَت وقائع كثيرة في هذا المجال، ومنها أنّ عناصر "داعش" أخذوا من امرأة عجوز مبلغًا في حوزتها قيمته 15 ألف دولار. ولمّا طلبت استرداد مئة دولار فقط لتدفعَها أجرة للسيّارة، قالوا لها إنّ المالَ أصبحَ ملكًا للدّولة الإسلاميّة". كما سحب المسلّحون جوازات سفر والبطاقات الشخصيّة لكلّ من يخرج من مدينة الموصل في اتجاه إقليم كردستان، وفق شهودٍ.

أمّا بطريرك الكلدان في العراق والعالم لويس ساكو فحذّرَ من مغبّة مغادرةِ المسيحيّين الموصل، ثاني أكبر مدن العراق الّتي تضمّ نحو 30 كنيسة يعودُ تاريخُ بعضها إلى نحو 1500 سنة.

وينسحب الأمر أيضًا على بلدة "برطلة" المسيحيّة التي يعيش فيها حوالي 30 ألف شخص وتقع إلى الشّمال من الموصل.

وفي دهوك، أكّدت أحلام وصولَها سيرًا على الأقدام بعد ما استولى عناصر "داعش" على سيّارة زوجها عند نقطة تفتيش شمال الموصل، فحملَت وزوجها أطفالَها على أكتافهما طَول الطّريق، وبعدما سلبهما الدّاعشيّون ما كان في حوزتهما عند حاجز التّفتيش". وبكَت منزلاً في الموصل كان مُلكًا لعائلتها لعشرات السّنين، وقد أصبحَ في كلّ سهولةٍ، مُلكًا لعقارات الدّولةِ الإسلاميّةِ من دون وجه حقّ".

ويعُودُ تاريخُ معاناة المسيحيّين في العصر الحديث إلى سقوط نظامِ الرّئيس العراقيّ السّابق صدّام حسَين، إذ ساءَ وضعُ الأقليّات في العراق – ومنهم المسيحيّون - بعد احتلال البلادِ. وتعرّضَت الكنائسُ لهجماتٍ كان أعنفها تلك التي استهدَفت كنائس في بغداد والموصل في 3 آب 2004 وأدّت وقتَها إلى مقتل 15 وجرح العشرات...

كما أدَّت سيطرةُ "تنظيمِ القاعدة" على أجزاء من المدُن العراقيّةِ في تشرين الثّاني 2004 إلى نزوحِ أعدادٍ كبيرةٍ من المسيحيّين، واستُهدِف رجال الدّين وبينهُم مطران الكنيسة الكلدانيّة الكاثوليكيّة بولس فرج رحو الّذي عُثر عليه مقتولاً بعد اختطافه في 3 آذار 2008. كما اقتحَم مجهولون ديرًا للرّاهبات وقتلوا راهبتين وجرحوا ثالثة، ما أدّى عام 2008 إلى نزوح 500 عائلة إلى مناطق سهل نينوى على أثر هذه الحوادث. وقدّرت وقتَها منظّمات حقوقيّة العدد الكليّ للنّازحين بحوالي اثنَي عشر ألفًا.

وأشارَت الأصابعُ حينها أيضًا إلى الأحزابِ الكرديّة الّتي اتُّهِمَت بالقيامِ بهذه العمليّات الدّمويّة لزعزعة الأمن في الموصِل، وما كان مِن ناطقٍ في وزارةِ الدّفاع العراقيّة إلاّ أنْ نفى مسؤوليّة تنظيم القاعدة، على رغمِ أنّ الحملة عام 2008، قامت بها "جماعاتٌ متطرّفة" وزّعَت منشوراتٍ تخيّر المسيحيّين بين الإسلام أو المغادرة.

وأدّى أخطر هجوم استهدفَ المسيحيّين إلى مقتل 44 مصلّيًا وكاهنَين في كنيسة للسّريان الكاثوليك في قلب بغداد في 31 تشرين الأوّل 2010.

ويرى جورج إسحق القياديُّ في الحركةِ الدّيمقراطيّةِ الآشوريّةِ في الموصل، أنّ الجماعاتِ المتطرّفة ما هي إلاّ أداة في يدِ أفرقاء داخليّين، بعضُهم مرتبطٌ بالخارج.

أمّا الحكومةُ العراقيّة، فما كانَ مِنها منذ بداية الاضطّهاد، إلاّ أنْ اقتصرَ تدخّلُها على وعودٍ للمسيحيّين، بتوفير تسعمئة ألف دولارٍ أميركيّ لمساعدة النّاجين المنتشرِين في القرى والأديرة، شرق الموصل وشمالها.

فهل يكفي شجبُ الأمانةِ العامّة لجامعة الدّول العربيّة، التّهجير القسريّ للمسيحيّين في الموصل؟ وهل هذه الخطوَة - البيان، كافية لإقناعِ اللاعبين الدّوليّين بأنّ ذاك التّهجير "وصمة عار" لا يمكنُ السّكوتُ عنها؟.

وإذا كان إفراغُ الموصل من سكّانه المسيحيّين بمثابة جريمةٍ في حقّ العراق وتاريخِه - كما في حقّ الدّول العربية والإسلام والمسلمين جميعًا - فما هي سياسةُ المواجهةِ عربيًّا وإسلاميًّا؟

وإلاّ فكيفَ نواجه انخفاض عدد المسيحيّين في العراق من حوالي مليون و400 ألف عام 2003 إلى قرابةِ نصف مليون الآن، بحسبِ تقريرٍ لمنظّمةِ "حمورابي لحقوق الإنسان" العراقيّة.