في لحظة حالكة وظروف صعبة يمر بها لبنان وفلسطين وسط التشرذم العربي، يخطف الموت النائب العام الاستئنافي في الجنوب القاضي سميح مصطفى الحاج، وهو في عز عطائه.

أنْ نفتقد (الريّس) ​سميح الحاج​ فهو خسارة كبيرة وجسيمة، ليس للقضاء الذي هو أحوج ما يكون إلى أمثاله في هذه اللحظات الهامة، بل إلى ما كان يتمتّع به من مناقبية وحكمة وبُعد بصيرة، حيث كان يُعالج العديد من الملفات بمبدأ "إصلاح ذات البين".

نفتقد أخاً، صديقاً، صادقاً صدوقاً، وفياً، وطنياً وقومياً بامتياز، يندر أمثاله في أيامنا هذه.

وعلاقتي بالريّس سميح، تكرّست وتعمّقت على مر السنوات، وتجلّت في أوجها خلال مفاتحته بإقامة حفل توقيع كتابي "زلزال الموساد... العملاء في قبضة العدالة" في صيدا، وأنّ التاريخ هو عشيّة الذكرى السنوية الرابعة عشرة لتحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي (25 أيار 2000)، والذكرى السنوية التاسعة لاغتيال الأخوين محمود ونضال المجذوب على يدَيْ "الموساد" الإسرائيلي، وإبلاغه برغبتي بأنْ تكون هذه المناسبات مجتمعة متوّجة بتكريمه، وكان ذلك يوم السبت 24 أيار 2014.

حضر كثرٌ، وغصّت بهم القاعة الكبرى في بلدية صيدا، من مختلف الأطياف اللبنانية والفلسطينية، وأُسر الشهداء، وكان في الطليعة المحتفى به الريّس سميح الحاج، الذي وعلى الرغم من ظروفه الصحية خرج من المستشفى ليُشارك في هذا الحفل متأبّطاً ذراع شريكة العمر منى الحاج وأفراد العائلة.

كان مُفعماً بالحيوية ووجهه يشع نوراً، وهو يلتقي الكثير من الأصدقاء والمعارف، وكأنّه يودّع الجميع في آخر إطلالة له، وانهمرت دموع القاضي النزيه لحظة تسلّمه درع التكريم، الذي تضمّن تراباً من المسجد الأقصى وكنيسة المهد وزيت الزيتون الفلسطيني – أي من الأرض التي ناضل من أجلها في "حركة القوميين العرب"، قبل التحاقه في "الكتيبة الطلابية" التي أنشأتها حركة "فتح"، وبقي مدافعاً عن القضية الفلسطينية حتى رحيله، موصياً أفراد العائلة بحفظ الأمانة ومواصلة النضال من أجل أقدس القضايا.

بين الحين والآخر، وعلى الرغم من ضغط العمل وكثافته، كان يحادثني عن بعض الذكريات والمحطات، خاصة في مسيرته النضالية والقضائية، لكن في زيارتي له خلال شهر أيار حين وافق على المشاركة في الاحتفال، استبقاني مطوّلاً في مكتبه، وهو يروي لي سيرة حياته منذ الولادة إلى النشاط الطلابي والعمل النضالي، وصولاً إلى معرفته بالرئيس نبيه بري، اللذين كانا يتبادلان الحب منذ بداية المعرفة في بربور في أوائل سبعينيات القرن الماضي، وكيف دفع به إلى دراسة الحقوق، ومن ثم تأمين مكتب محاماة للتدرّج، بعدما قدّم استقالته من العمل المصرفي (بنك البحر المتوسط)، وكيف طلب منه الرئيس بري (الذي كان وزيراً للدولة) الدخول إلى السلك القضائي، حيث كان الريّس سميح لا يريد ذلك، لكن وفي جلسة لتقديم التهاني بعيد الأضحى كان الخيار الأصعب بين أنْ يلتقيه الرئيس بري مع عمه الحاج "أبو غالب" والريّس حسن الحاج، إذا وافق على الدخول إلى القضاء، وبين الامتناع عن اللقاء إذا أصرَّ على رأيه بأنْ يرفض الالتحاق بالسلك القضائي.

لكن الريّس سميح، اختار الصداقة مع الرئيس بري بالموافقة على سلوك درب السلك القضائي، وكان ذلك مع بداية تسعينيات القرن الماضي، فتبوّأ العديد من المراكز، وتولّى التحقيق في ملفات هامّة وحسّاسة، لكن أهم ما يعتبره من الملفات المميّزة بالنسبة إليه، كان:

- تسلّمه ملف تغييب الإمام السيد موسى الصدر ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين، وإصداره حكم الإعدام بحق العقيد معمر القذافي، وهو في أوج قوّته.

- ملفات العملاء، وإصداره قرارات ظنية فيها، والتي كان يطلب فيها حكم الإعدام، وهو الذي يؤمن بإعدام أي متعامل مع العدو لمجرد الاتصال به، وليس إلى نتائج الجرم.

بعد هذا كله، هل ما زلنا بحاجة للإجابة على تساؤلات من "قاصري النظر"، لماذا تكريم الريّس سميح الحاج خلال توقيع كتاب "زلزال الموساد" وفي صيدا بالذات؟!

مَنْ كانت هذه صفاته مناقبية والتزاماً من أجل فلسطين قبل أنْ أُبصِر النور، و"إصلاح ذات البين"، والصدق والوفاء يستحق كل تكريم، وكان الأجدى تكريمه من قِبل كثر وهو في حياته، لأنّه من حق المرء أنْ يُكرّم وهو في أوج العطاء وموجود بيننا، ليس أنْ يكون ذلك، وهو غائب عنّا بعد الرحيل.

كثيرة هي الأوسمة والدروع التي ستُمنح للرئيس سميح بعد رحيله، لكن الأهم منها ما ناله منها في حياته.

يرحل الريّس سميح الحاج، وفي قلبه غصة على:

- حالة الانقسام التي يعيشها لبنان هذه الأيام.

- مواصلة العدو الصهيوني ارتكاب العديد من المجازر بحق الأبرياء في غزة وفلسطين.

يغيب بعد شهر رمضان، وعيد الفطر، وفي يوم الجمعة، بعد معاناته مع مرض عضال، محسوباً عند الله شهيداً.

يغيب وبفارق شهر واحد عن إتمامه عامه العشرين في السلك القضائي، حيث يحال على التقاعد، وهنا مطلوب أن يكون درجة تميز تتيح لعائلته الحصول على تقاعده، لأن القاضي "الأدمي" لا يجوز أن يُظلم مرتين، في حياته لنظافة كفه، وبعد رحيله بعدم الوفاء لعائلته، وهو ما يحتاج إلى حسم في هذا الموضوع.

اليوم يرقد جثمان الريّس سميح الحاج في مسقط رأسه الوردانية في إقليم الخروب في جبل لبنان الشامخ، كزيتونة تُحاكي زيتون فلسطين، وكما وعدناه فسيكون له مكان مميّز في فلسطين، التي ناضل من أجلها بعد تحريرها، فهي توأم الروح مع لبنان.

نتقدّم من عائلة الفقيد والجسم القضائي وكل من أحبّه وعرفه بأحر التعازي.