تضيق السبل بفادي، الشاب العراقي الثلاثيني الذي أتى وشقيقه وعائلتيهما إلى لبنان، هربًا مما آلت إليه الأوضاع في الموصل. وصلت العائلتان إلى لبنان جوًا منذ حوالى عشرة أيام، ولم يكن الأمر ليتم لو لم يكن الأفراد الستة «محظوظين» بامتلاكهم جوازات سفر، فالكثيرون من الأقارب والمعارف لم يتمكنوا من سلوك طريق الهجرة نفسه لعدم جهوزية جوازات سفرهم، فاختاروا اللجوء إلى قرى محيطة بالموصل لما تتمتع به من أمان نسبي غير دائم.

يتحدث فادي بمرارة كبيرة عن المرحلة الأخيرة التي قضاها في مدينته الموصل. فعندما دخل المسلحون لم يتعرضوا للأهالي، لا بل طمأنوهم قائلين إنهم ثوار العشائر ولا داعي للخوف. إلا أنهم ما لبثوا وبعد فترة قصيرة أن انقلبوا عليهم. بدأت تتناهى إلى مسامع فادي أن ثمة دعوات لخروج المسيحيين من الموصل، ثم هاله رؤية ملثمين في الطرقات يهددون المسيحيين.  

ويقول فادي: «باتت حياتنا في أيام كناية عن لائحة ممنوعات: ممنوع على المسيحي أن يكون موظفا في الدولة أو أن يستلم أي مساعدة إجتماعية معيشية.. ممنوع على المرأة أن تخرج وحدها من دون زوجها.. كذلك، الدخان ممنوع وشرب المياه الباردة ولعب كرة القدم بحجة أنها حرام! وكنا نريد التعايش مع هذا الواقع المؤلم إلى أن وُضعت أمامنا ثلاثة خيارات: إما ندفع جزية بمبلغ خيالي في الشهر يعادل 18 غرامًا من الذهب أو حوالى ألفي دولار، أو نشهر إسلامنا، أو نُقتل. إخترنا الهجرة مكرهين، علمًا أن هذه هجرتي الثانية من بلدي العراق. فقد قضيت أكثر من تسع سنوات من عمري لاجئًا في سوريا، وعندما عدت إلى العراق اعتقدت أن رحلة العذاب والتشرد قد انتهت إلى أن تكررت المأساة مجددًا. أما اليوم فإنني متأكد بأنني لن أعود إلى العراق أبدًا».

يؤلم فادي كثيرا كيف أن جاره صاحب الدكان الذي طالما اشترى حاجيات عائلته من عنده، رفض في المرحلة الأخيرة أن يبيعه شيئًا، بحجة أنه مسيحي. قد يكون الخوف الذي عمّ الجميع دفعه إلى اتخاذ هذا الموقف، في وقت كان فادي يتوقع أن يكون الحساب الأول للجيرة والإنسانية. كما لا ينسى فادي وأي من أفراد عائلته رحلة مغادرة الموصل حيث كانت الحواجز تملأ الطرقات بمسلحين منتمين إلى داعش بدوا في غالبيتهم من جنسيات غير عراقية. كانوا يعمدون إلى إيقاف العابرين وسلبهم مالهم ومصاغهم وسندات ملكيتهم. «أخذوا كل شيء.. باستثناء أنني شاهدتهم يتجاوبون مع رجل خمسيني كان يرجوهم أن يتركوا له إيجار التاكسي.»

إلتقت اللواء بفادي بينما كان يسعى لإيجاد عمل ما في لبنان. فهو وشقيقه وأفراد عائلتيهما يعيشون في شقة في منطقة سد البوشرية يبلغ إيجارها سبعمئة دولار شهريًا، لا يملكون منها دولارًا واحدًا. يقضي معظم ساعات النهار في المنزل حيث تستند العائلة إلى مساعدات تقدمها الكنيسة الأشورية في المنطقة التي يسكن فيها، وهي مساعدات فردية غير منظمة نظرا لانشغال المنظمات الإنسانية بالحجم الكبير للاجئين السوريين في لبنان. وأمل فادي الوحيد هو الحصول من مفوضية اللاجئين على توطين في بلد غربي، على غرار الكثيرين من العراقيين الذين هاجروا من العراق قبل سنوات.

الموصل فرغ من مسيحييه ونزيف الهجرة مستمر في العراق

تُعتبر الموصل ثاني أكبر مدن العراق، وتتضمن حوالى ثلاثين ألف مسيحي غالبيتهم من الطائفة الكلدانية. ويعتقد أنها فرغت من المسيحيين باستثناء بضع عائلات أفرادها مرضى يعالجون في العراق، أو عجزة لم يتمكنوا من الخروج. ويقول الخارجون من الموصل إن الذي بقي فيها أبلغ مسلحي داعش أنه اعتنق الإسلام، ولو مكرهًا على الورق، لعدم قدرته على المغادرة. أما الذين تركوا الموصل فتوجهوا إلى تركيا أو لبنان، وقد وصلوا إلى الأخير جوا أو برا من طريق المصنع من خلال ممرات معينة كمعبري النتف والوليد على الحدود العراقية السورية. ومن لم يتمكن من السفر، إنتقل إلى مناطق محيطة بالموصل في كل من كردستان ومحافظة نينوى مثل إربيل، زاخو، عين كاوا، دهوك، السليمانية، قرقوش، قراقوش، تلكيف. ويسود اعتقاد أن الهجرة إلى لبنان وتركيا قد تتفاقم في حال حصل النازحون داخل العراق على جوازات سفر.

والمؤلم أن هذه الهجرة تأتي في سياق سلسلة من النزيف المسيحي المتواصل في العراق منذ أكثر من خمس عشرة سنة. فهذا البلد الذي كان يضم حوالى مليون ونصف مليون مسيحي، خسر أبناءه من الطوائف المسيحية تدريجًا حتى بات عددهم حاليا يناهز أربعمئة ألف. فكنائس العاصمة بغداد التي كانت تحتشد بالمؤمنين الذين فاق عددهم أربعمئة ألف مسيحي، باتت تحن وتفتقر إلى هذا الوجود الكثيف الذي انحسر إلى حوالى خمسين ألفا، حسب إحصاءات كنسية غير رسمية. وقد انتشر هؤلاء المسيحيون في أصقاع الأرض حيث يعيش مثلا مئتان وخمسون ألف عراقي مسيحي كلداني في ولاية ديترويت في الولايات المتحدة الأميركية، مشكلين واحدا من أكبر التجمعات المسيحية الكاثوليكية الشرقية في الخارج.

ويقول مطران الطائفة الكلدانية في لبنان ميشال قصرجي إن آلاف المسيحيين العراقيين عبروا من العراق إلى لبنان فبلدان اللجوء في السنوات الأخيرة، مضيفا أن سجلات المطرانية تشير إلى ان حوالى ثلاثين ألف عراقي غادروا من لبنان باتجاه كندا وأستراليا والولايات المتحدة الأميركية، وتتضمن هذه السجلات حاليا أسماء حوالى ألف وخمسمئة عائلة مسيحية عراقية، من المرجح أن يلقى أفرادها مصير الهجرة النهائية الذي لقيه أسلافهم، والحبل على الجرار، إذ يخشى قصرجي من أن تستبدل أسماء هؤلاء بأسماء آخرين سنة فسنة، حتى يفرغ العراق من مسيحييه.

سلسة من الأسئلة يطرحها المطران قصرجي حول أسباب نشوء داعش واضطهاد الأخير للمسيحيين: «كيف استطاع هؤلاء التمدد في العراق وسوريا لو لم يكونوا مدعومين من دول كبيرة؟ من أين يأتون بالمال والسلاح؟ وإذا كان استيلاؤهم على حقول النفط جوابًا، فلم يتم شراء النفط منهم من قبل تركيا وغيرها؟ أنا متأكد أن داعش تنتهي في حال عزلها وعدم التعاطي معها. وإن الصمت حيال ما يحصل هو أكبر إدانة للمجتمع الدولي والولايات المتحدة وأوروبا». وإذ ينتقد بشدة ما وصفه بحل نبوي إقترحته فرنسا بدعوتها إلى استقبال أربعمئة ألف عراقي مسيحي، يضيف أنه من الممكن لأي إنسان أن يختار الهجرة والإنتقال إلى مكان آخر، أما أن يكون مضطرا للمغادرة لأنه يحمل الصليب فهذا أمر غير مقبول.

وأبدى قصرجي اعتقاده بأن الهدف مما يحصل في العراق هو إفراغه من مسيحييه الذين يعززون بوجودهم مناخ الإعتدال في الشرق الأوسط، فيما يبدو الاتجاه نحو تأجيج الصراع السني الشيعي وسط أجواء طائفية مشحونة لا تخدم في النهاية إلا إسرائيل. ومع إبدائه التقدير للمسلمين المعتدلين، يرى قصرجي أنه كان على هؤلاء رفع الصوت بقوة أكثر واتخاذ إجراءات معينة تعكس رفضهم سلوك داعش. ويأسف لكون الدول الغربية تمد بالسلاح كلا من داعش والحكومات العربية المعتدلة فكأنها تدعو المعتدلين والمتطرفين إلى حروب بين بعضهم البعض لن تنتهي إلا بتدمير الجميع.

«مؤتمر الديمان» بين حدي التسلح وتدخل الأمم المتحدة

حتمت أوضاع العراق إستنفار دوائر كنسية حيث تقوم الكنيسة العراقية بجهود كثيفة لاجتراح حلول لأزمة التهجير الخطرة، ويعقد البطريرك الكلداني لويس ساكو المقيم في بغداد إجتماعات مع وفود خارجية، في موازاة دعوة البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي إلى قمة تضم بطاركة الشرق يوم بعد غد «الخميس» في الديمان، من المفترض أن يحضرها بطاركة الطوائف السريانية والكلدانية والأشورية.

وآثرت مصادر البطريركية عدم استباق المؤتمر بمواقف معينة، مؤكدة أن البطريركية المارونية ستترك للبطاركة المعنيين بمسيحيي العراق إبداء آرائهم وعرض مطالبهم، متوقعة أن تخرج القمة بموقف مهم يلامس خطورة الأوضاع الحالية وطابعها المصيري. إلا أن مصادر كنسية مشاركة في الاجتماعات التحضيرية للمؤتمر أوضحت للواء أن أكثر من فكرة يتم طرحها من أبرزها اتجاه لتدويل الأزمة من خلال مطالبة الأمم المتحدة بممارسة ضغط دولي لإيجاد حلول للأزمة، وإرسال قوات دولية لحماية المسيحيين، لأنه كلما طال الأمر فلن يعود المسيحيون إلى العراق. وإذ أكدت أن المقررات النهائية تبقى ملك البطاركة، أملت المصادر صدور مذكرة واضحة بهذا الصدد عن قمة بكركي يتم تسليمها إلى دول القرار وتلك المؤثرة بأحداث العراق بدءا من تركيا وقطر والسعودية إلى سوريا وإيران والأمم المتحدة والبابا فرنسيس.

أما بالنسبة إلى الدعوات التي أطلقها البعض حول وجوب تسليح المسيحيين في العراق، فإن الكنيسة ترفض هذه الدعوات رفضا مطلقا. فهي تقبل بالسلاح فقط عندما يكون مع الدولة وجيشها النظامي، وليس بوسعها أبدا أن تدعو إلى التسلح وإلا تخالف عندئذ تعاليم الإنجيل. أما إذا كان السلاح فرديا أو مناطًا مناط بأحزاب لها حرية تحديد موقفها، فهذا أمر مختلف، علمًا أن أي تحرك فردي أو حزبي لم يبرز للدفاع عن الأرض.

اللاجئون العراقيون والخشية من اضطهاد ثانٍ

في الانتظار، يترقب اللاجئون العراقيون الذين وصلوا إلى لبنان حلولا موقتة لأوضاعهم المعيشية الصعبة. وتسعى الكنائس ولا سيما الكلدانية إلى إعطاء هؤلاء ورقة «عدم تعرض» من قبل الدولة اللبنانية لأنه في غضون شهر من وصول العراقي المسيحي إلى لبنان، يصبح وضعه غير شرعي. وفي حال استحصل على إقامة شرعية، يصبح مهددًا بعدم تسجيله من قبل مفوضية اللاجئين للحصول على توطين في بلد ثالث في غضون سنة أو سنتين. واقع يجعل إقامة اللاجئ العراقي في لبنان بالغة الصعوبة، فهو مهدد بالسجن من جهة، ولا يمتلك إجازة عمل من جهة ثانية، كما أن الشعب اللبناني المتعب أصلا من أوضاعه الإقتصادية والمعيشية والسياسية والأمنية الصعبة، لم يعد بمقدوره تحمل المزيد من المآسي، بعدما تحمل الكثير من عبء النزوح السوري. رغم ذلك، يطلق المطران قصرجي نداء إلى أصحاب الأيادي والقلوب البيضاء لعدم اضطهاد العراقيين مرة ثانية بل دعم هؤلاء الضعفاء الذين أتوا إلى لبنان تحت وطأة الأحداث المصيرية في بلادهم والتي يُخشى أن تمتد نيران آثارها السلبية إلى الشرق كله!