منذ عشرات السنين، تلاحقنا عبارة "إنّ لبنان كدولة مستقلة وُجد أو أوجد بسبب المسيحيين"، وكبرنا على عبارة "إنّ لبنان من دون المسيحيين لا معنى له ولا ضرورة". وها نحن نقترب من فقدان مبررات وجود هذا "البلد".

يعيش المسيحيون في هذه المرحلة كابوسا خطيراً. صحيحٌ أنّهم خاضوا آلاف المعارك منذ وصولهم إلى جبال لبنان وسكنهم في وديانه الوعرة، واستطاعوا أن يصمدوا. إلا أنّ ما يواجههم اليوم هو معركة من نوع آخر. معركة الوجود أو اللاوجود. أنصاف الحلول ممنوعة وغير متوافرة. فهل هم حاضرون؟ هل هم جاهزون "سياسياً" للمعركة الفاصلة؟ هل يميزون العدو من الصديق أو على الأقل من غير العدو؟

على المستوى السياسي، يعيش المسيحيون دون رؤية موحدة، بعضهم أو بعبارة أدق بعضنا وبهدف تسجيل نقاط في السياسة غطى الارهاب دون أن يدري.

منذ ثلاث سنوات ذهبوا وفودًا وفودًا، من أحزاب مسيحية، إلى عرسال ليهاجموا وزارة الدفاع التي كشفت للبنانيين عن وجود مجموعات تكفيرية داخل الاراضي اللبنانية، تستعمل عرسال كممر آمن لعناصرها. وتلك المعلومات كانت صادرة عن اجهزة رسمية وليست في معرض التحليل.

هاجموا من هناك، وللأسف على لسان مسيحيين، رئيس تيار المرده النائب ​سليمان فرنجية​ الذي دق ناقوس الخطر ووضع الجميع أمام مسؤولياته محذراً من الموجة التكفيرية القادمة.

لم يجرؤ أحد منهم على الرد على النائب ​خالد الضاهر​ يوم هاجم الجيش غداة مقتل الشهيدين النقيب بيار بشعلاني والمؤهل ابراهيم زهرمان ابن منطقته عكار واتهم حينها الجيش زوراً أنه كان بلباس مدني فلم يميّزه المسلحون.

سخروا ممن حذر من خطر "داعش" ووصفوها كحركة محرومين وكثورة شعبية. لم يؤمنوا الدعم اللازم للجيش بل كانت بياناتهم مشبوهة اذ بعد كلمة تأييد تحضر فوراً كلمة "ولكن"..

سكتوا عن الغدر بالجيش خلال معركة عرسال من خلال المكيدة التي نصبت له بعد زجه في تسوية خاسرة لم يسترد من خلالها أسراه. وبعد ذلك كله تراهم يمارسون الفجور السياسي كأنهم تبرأوا من تاريخهم وراحوا يزايدون في حب الجيش بعد أن تركوا حلفاءهم ينحروه، لا بل يوحون بكلامهم أنّهم كانوا على صواب. بالفعل هذا فجور، مصيرنا على المحك وهم يحسبون النقاط في السياسة.

دخلت "داعش" الموصل ونينوى وبلاد الازيديين وباتت على مشارف بغداد واربيل، وما زالوا يتهمون "حزب الله" بأنّ ذهابه إلى سوريا كان السببب في إحضار "داعش" الى لبنان. بالله عليكم، هل حارب أهل الموصل في الشام والازيديون في حلب والاكراد في حمص؟

لكن الحقيقة تقال، ان الرعب الذي تفشى في بيروت خلال معارك عرسال الاخيرة لا يطمئن على الإطلاق.

لأول مرة اجتاح اللبنانيين عامة والمسيحيين خاصة مرض اسمه الرعب. الإيجابية الوحيدة أنّ القواعد الشعبية توحدت ضد الارهاب وأقرّ الكثير من أنصار "14 آذار" أنّ خيارات قادتهم على المستوى الاستراتيجي ساقطة، إنما ماذا ينفع كل ذلك؟

هذا في السياسة والأمن، أما في غير ذلك فهناك الفاجعة..

لم يعد المسيحي يتقبّل حياة تقشف، خاصة إذا كانت نوعية تلك الحياة ناتجة عن إهمال وسوء إدارة. كلّ فرد هنا يقارن بين ما تقدّمه الدولة له ولعائلته في لبنان وبين ما تقدّمه دولة أجنبية لشقيق له أو قريب هاجر إليها.

تربويًا، طلاب لبنان أسرى الكباش المجنون بين الدولة التي تحمي أصحاب رؤوس الأموال وبين المعلمين المضربين.

خدماتيًا، الكهرباء إلى تدهور كارثي والاتصالات والانترنت تعاني مع "الشيخ" كما لم تعانِ مع من سبقه، والمياه التي كانت ثروة لبنان أصبح على اللبناني شراءها بالصهاريج.

اقتصاديا، الركود الاقتصادي يهدد بإنزال من تبقى فوق خط الفقر إلى تحته.

فأين بصيص النور في كل هذه الظلمة؟

ويسألون هل فقد المسيحيون الأمل في لبنان؟!

للحقيقة ودون شعارات، هم قاب قوسين أو أدنى من فقدان الأمل والكفر بالذات والوطن.

لم يعد المسيحي "محاربًا إغريقيا". أصبحت الحرب بالنسبة له كذبة حتى لو كان بخوضه لها يدافع عن مصيره.

لم تعد الهجرة آخر الخيارات، بل أصبحت خيارًا مفضلا. والحل ليس سهلاً اذ كيف تخاض معارك الصمود دون رؤية؟

للأسف، يتفرج المسيحي اليوم على آخر معارك بقائه في الشرق دون أن يعطي لهذه المعركة أهميتها، والنتيجة ستكون أنه خاسر لا محال.

اليوم أكثر من أيّ وقت مضى نفتقد لمن ينظم الصفوف، لمن يصرخ ويأمر ويوجه، لمن يرسم الخطوط الحمر.

اليوم أكثر من اي وقت مضى نحتاج لمن يدير معركة استرجاع الحقوق المهدورة، معركة القانون الانتخابي العادل والميثاقي، معركة رفض المكرمات المذلة، معركة لبننة الخطابات السياسية وحذف عبارات التبريك والحفظ والدعاء بطول العمر لأمير هنا وملكٍ هناك، معركة الخيار بين لبنان وغير لبنان، معركة الشراكة الرئاسية من خلال رئيس قوي، معركة قول الحقيقة وعدم نسيان الماضي، معركة الوجود...

اليوم وأكثر من اي وقت مضى نحتاج لذلك المجلس التخطيطي ليرسم خطط صمودنا.

فهل هذا المجلس موجود؟ هل نستطيع ان نأمل؟ لأن عكس ذلك ينتظرنا المصير الأسود، لأنّ الفشل يعني الرحيل.. ولنتحضر للرحيل.

* عضو لجنة الشؤون السياسية في تيار المردة