منذ ظهور تنظيم «داعش» (الاسم الحركي لـ «دولة العراق والشام الإسلامية» على سطح الأحداث والتساؤلات كثيرة حوله، لكن من دون إجابات محدّدة عنها. ومن ذلك: هذا التنظيم كيف نشأ؟ مَن المموّل؟ ومَن الذي يدّعي أبوّته أو بنوّته؟ هو ربيب مَن؟ هل هو لقيط؟ أم هل ولد سفّاحاً؟

ويبقى فك رموز نشأة «داعش» بهذا الزخم من الأمور الملحّة، حيث إن توافر أكبر مقدار ممـــكن من المعـــلومات من شأنه أن يلقي الأضـــواء الكاشــفة والكامنة خلف هذا اللغز الكبـــير، بل مجموعة الألغاز. وبانتظار فك رموز هذا التنظيم يجب أن نذكر ما يحمله من سلبيّات وإيجابيات!

في السلبيات، وما أكثرها، فإن تنظيم «داعش» أعاد أو يريد إعادة المنطقة إلى العصر الجاهليّ، وإلى ما قبل الإسلام، هذا الذي يجري الحديث باسمه! وفي الأماكن التي يسيطر عليها عناصر هذا التنظيم حدّث ولا حرج من ممارسات قمعيّة من التخلّف لا يمكن تصوّرها في 2014. فقد عدنا مع «داعش» إلى أسواق النخاسة. وإلى عمليات بيع وشراء السبايا (مئة دولار عن كل فتاة)!

والروايات تعود بنا إلى عصر ألف ليلة وليلة، لكن من الرعب. ففي منطقة دير الزور اقتحم فريق «داعشي» عيادة إحدى الطبيبات وتمّ تنـفيذ الإعدام بالطبيبة لماذا؟ لأنها تعالج المرضى من النساء والرجال! ما هذا الكفر؟ بل ما هذا الفكر التدميري؟

وتعود التساؤلات وبإلحاح شديد: ما هي الجنسيّة التي يحملها هذا التنظيم؟ وأي جواز سفر يحمل أعضاؤه؟ وفي غياب المعلومات المحدّدة تزدهر مواسم الإشاعات كالقول إن «داعش» هو «صنيعة» النظام السوري! وبعض آخر يقول إنه ربيب جذور عراقيّة فيما يرى بعض ثالث أن هذا التنظيم يحمل «البطاقة الخضراء» الأميركية وهي التي تُمنح لبعض المقيمين فيها تمهيداً للحصول على هوية أميركية كاملة!

وبانتظار جلاء أكبر مقدار ممكن من المعلومات عن تكوين «داعش»، المهم البحث عن كيفيّة مواجهة هذه الهمجية في التعاطي مع الآخرين غير الموالين لـ «الداعشيين». بتعبير آخر هل هناك آلية محدّدة أو منظمة لمواجهة زحف هذا التنظيم المدمّر؟

وبمقدار ما يخفت الحديث عن الطائفية فنحن في حاجة لاستخدام بعض رموزها لإيضاح الأمور مثلاً: إن «داعش» يزعم أنه يدافع عن مصالح الإسلام – السنّة. لكن ما هذا الافتئات على الدين الحنيف؟

على الفئات التي يزعم التنظيم أنه يتحدّث باسمها أن تبادر إلى القيام بكل تحرّك يرمي إلى فضح عناصر هذا التنظيم وممارساتهم الدنيئة.

وفي هذا المجال، وعلى سبيل المثل لا الحصر، استمعنا إلى حديث مفتي المملكة العربيّة السعودية الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ يتصدّى لهذه الحملة ويقول: «إن أفكار التشدد والتطرّف والإرهاب الذي يُفسد في الأرض ويُهلك الحرث والنسل ليس من الإسلام في شيء، وإنها عدو الإسلام الأوّل، وإن المسلمين هم أوّل ضحاياه كما هو مشاهد في جرائم ما يُسمّى بـ «داعش» و «القاعدة» وما يتفرّع عنهما من الجماعات الخارجيّة». ويضيف: «إنّ هذه لا تُحسب على المسلمين، بل هم من الخوارج وهو امتداد للخوارج الذين هم أوّل فرقة مرتدّة من الدين بسبب تكفيرها المسلمين بالذنوب، فاستحلّت دماءَهم وأموالهم».

لقد تحدّثنا حتّى الآن عن سلبيّات «داعش»، لكن هل له من إيجابيات؟

نعم... ويا للمفارقة!

لقد أدّى بروز «داعش» بهذا الزخم الاقتحاميّ إلى نشوء أكبر عملية خلط أوراق في المنطقة، مع ظهور بعض الجهات المعارضة لهذا التنظيم جمعت التناقضات حتّى بين الدول التي باعدت بينها السياسات تجد نفسها، ولو مرغمة، على وضع حدّ لأخطار إعادة نشر التخلّف وكل ممارسات عصر الجاهليّة، وما قبل الإسلام. فكيف يزعم تنظيم «داعش» أنه يريد تعميم الإسلام على دين الدولة في المواقع التي يدخلونها؟

هكذا، نرى أن تحالفاً عريضاً يجمع من الولايات المتحدة إلى سورية في خوض حرب جويّة ضد عناصر هذا التنظيم. وتولّت طائرات أميركية – من دون طيّار - قصف تجمّعات «داعش» في العراق، بخاصة في مناطق سد الموصل الذي يتصف بأهميّة استراتيجية كبيرة.

وسط كل هذا الخضم العاصف: أين الولايات المتحدة من كل ما يجري في المنطقة، خصوصاً في مواقع جغرافيّة تريد أميركا أن تعتبرها أنها حامية لها، كالعراق على سبيل المثل لا الحصر.

يروي الصحافيّ الأميركي توماس فريدمان ما جرى بينه وبين الرئيس باراك أوباما. وكانت لافتة الإشارة إلى أن اللون الأبيض بدأ «يتسلّل» بوضوح إلى رأس الرئيس الأميركي الداكن اللون، كإشارة إلى أن الهموم والمتاعب والمسؤوليات جعلت الأبيض يظهر بوضوح على رأسه.

والواضح أن البيت الأبيض في عهد قاطنه باراك أوباما أوجد حالاً من الإرباك الشديد تمثّل في التردد وعدم اتخاذ مواقف واضحة حيال ما يجري في العالم وبصورة أخص في منطقة الشرق الأوسط.

لكن «الفظاعات» التي ارتكبها عناصر تنظيم «داعش» أرغمت الرئيس أوباما على قطع إجازته الصيفيّة والعودة إلى واشنطن لترؤس اجتماعات عدّة لأعضاء مجلس الأمن القومي، توجّه بعدها مباشرةً إلى غرفة الصحافة (على غير عادة)، واختار أن يبدأ التعليق على آخر التطوّرات في العراق، حيث قال: «أريد أن أوضح للساسة العراقيّين أن الوقت غير مناسب للعودة إلى الانقسام الذي أضعف البلاد»، مضيفاً... «عندما ترى أميركا حكومة يوثق بها في العراق فهي مستعدّة للانخراط في استراتيجــية إقليمية مشتركة لمكافحة الإرهاب». وفــي هذه الملاحظــات إشارة إلى الأزمة التي رافقـــت إرغام نوري المالكي على التخلّي عن منصب رئيس الحكومة، والتعهد باستئصال «سرطان داعش».

أما من الناحية اللوجيستيّة والعملانيّة على صعيد القتال بين قوّات من الجيش العراقي وعناصر تنظيم «داعش»، فقد لوحظ التركيز على سد الموصل الشهير حيث دارت معارك شرسة للسيطرة على السد نظراً إلى أهميّته البالغة.

وفي معلومات واشنطن أن سد الموصل الذي يحجز حوالى 12 مليار متر مكعب من مياه نهر دجلة قد يغمر مدينتين ويقتل عشرات الآلاف من الأشخاص إذا دمّر أو انهار. وأظهر تقرير أميركي: «أن سد الموصل هو أخطر سد في العالم، وقد يصل فيضان مياهه إلى العاصمة العراقية بغداد. إذاً... لم يجد الرئيس أوباما مخرجاً إلّا بالموافقة على تولي طائرات (من دون طيّار) قصف تجمّعات لـ «داعش»، وهذا ما حدث بالفعل.

إن المصيبة جمعت بين مجموعة أضداد باعدت بينها السياسات وقرّبت بينها أخطار تفشي «داعش» في قلب الجسد العربي، فالتقت جهود الدول والمرجعيات الآتية: المملكة العربية السعودية... سورية، إيران، والولايات المتحدة وتركيا، وبعض الأطراف الأخرى غير الظاهرة في المشهدية العامة لمأساة الشرق الأوسط والتي أضافت إليها ممارسات تنظيم «داعش» المزيد من الويلات والكوارث.

هل يبلغ الأمر بنا حدّ القول: شكراً «داعش»، لقد وحدتَ مواقف الأضداد؟

ربما بالتعبير المجازي، لكن لا يمكن توجيه أي شكر لأي «داعشي» عاث في الأرض فساداً. لقد أعاد إلى الذاكرة الحالة التي سادت في العصر الجاهلي، وما قبل ظهور الإسلام.

وإذا كانت أخطار انتشار «فيروس داعش» في المنطقة أرغم أطرافاً ومراجع عدة على اللقاء – من دون لقاء – لمواجهة خطر مشترك على الجميع، فمن مصلحة الجميع محاربة تنظيم «داعش» ربما بالوسائل العسكريّة آنيّاً وبطرق أخرى بعيدة المدى في وقت لاحق.

وبعد...

أولاً: إن بروز تنظيم «داعش» بهذا الزخم الاقتحامي الفاجر والمدمّر يوجب على مختلف صنّاع القرار في المنطقة والإقليم والعالم اتخاذ موقف موحّد أكثر صلابةً مما هو قائم في الوقت الحاضر. ولو كانت هناك اليقظة الكافية والمتابعة الدقيقة لمجريات الأمور لما باغت تنظيم «داعش» المنطقة بكاملها.

ثانياً: إن الأقليّات على اختلافها وجدت نفسها ضحيّة الممارسات المفترسة لـ «داعش» حيث أرغم الكثير على مغادرة منازله ومناطقه، وهذا التهديد لا يقتصر فقط على الإيزيديين والمسيحيين فحسب، بل إن الخطر داهم على الجميع. وكانت زيارة بطاركة الشرق أربيلَ، في شمال العراق، واللقاء مع سكان تلك المناطق المهدّدة، بلسماً لجــــراح الكثيرين من سكّان مناطق الموصل وجوارها، وأطلق بطريرك انطاكية وسائر المشرق للموارنة مار بشارة بطرس الراعي، باسم الوفد الجامع، صرخة لإنقاذ الأقليّة المسيحيّة، لكن هذا لا يكفي إذا لم يقترن بخطوات عملية يمكن أن تحفظ المنطقة من أخطار وجود تجمّعات دينيّة متطرفة كـ «داعش»، إذ ليس بالدعاء وحده يحيا الإنسان المهدّد بحياته وحياة عائلته بشتّى أنواع القهر والظلم والاستعباد.

ثالثاً: خرجت «الحياة» صباح الخميس بعنوان عريض لافت جاء فيه: «... نحو قرار دولي بـ «قطع رأس داعش» ويعكس هذا العنوان رد الفعل الدولي الغاضب على ممارسات التنظيم، ومنها قطع الرؤوس، والعودة إلى تجارة الرق والعبوديّة وكل مظاهر التخلّف الجاهليّ... وتبقى العبرة في التطبيق، لأنها ليست المرّة الأولى التي تهدّد فيها الدول الغربيّة بتوجيه عقوبات ضد الخارجين عن كل قانون وشريعة وينتهي الأمر ببقاء قرارات مجلس الأمن الدولي أو غيره حبراً على ورق، فيما «داعش» يتابع غزواته المدمّرة.

رابعاً: تؤشّر بعض التطوّرات التي شهدتها المنطقة في الآونة الأخيرة إلى استشعار الأخطار الماثلة ضد الجميع من دون استثناء أحد، وضرورة العمل على بتر هذه الممارسات التي تقشعر لها الأبدان. فهل إن العالم المتحضّر سيضع تهديداته هذه المرّة موضع التنفيذ، وأن يكون للقرارات الدوليّة أنياب قادرة على تصفية هذه المظاهر الخارجة عن كل تعريف إنساني من التي ابتليت بها المنطقة؟

لـ «داعش» إيجابيات! نريد أن نستخدم هذا التعبير إذا كان يعني تلاقي الأضداد والأعدقاء في المنطقة.