يعتقد الكثيرون أنّ الحركات "الجهادية" الحديثة، التي خرجت بمعظمها من تحت عباءة تنظيم "القاعدة"، هي اليوم في طور مرحلة جديدة بلغت فيها قوة لا تهزم. لكن في حقيقة الأمر عوامل الضعف التي ستقودها إلى إنهيار حتمي بدأت تظهر من سنوات عديدة. وسيكون هذا بسرعة قياسية إذا ما تم التعامل معها بالشكل المطلوب، لا سيما على الصعيد الفكري، فالمعركة الأساس هي على كسب البيئة الحاضنة، أو المهيَّأة لتكون كذلك، لا مع هذه الحركات التي بدأت تكتب نهايتها بنفسها.

وبعيداً عن المعركة الفعلية، التي من الواجب التطرق لها بشكل مفصل لاحقاً، من الضروري الإشارة إلى عوامل الضعف على الصعيد التنظيمي، والتي تتحدث عنها قيادات هذه الحركات بشكل مفصل في أكثر من مناسبة. وما حصل منذ بداية الأزمة السورية يؤكد بشكل حاسم الواقع الجديد، فهذه الحركات أو الجماعات على المستوى التنظيمي ليست على أفضل حال. لكنها من حيث الإحتضان الشعبي لها فئات واسعة من المؤيدين نتيجة عوامل عدة إستفادت منها إلى أقصى حدود.

جيل "القاعدة" الإلكتروني

لم تعد "القاعدة" من الناحية التنظيمية، منذ سنوات طويلة، تلك الحركة القادرة على السيطرة على مختلف الفصائل التابعة لها في دول عدّة، وبات من الممكن أن تظهر مجموعات منفصلة تحمل التفكير نفسه من دون أن تكون خاضعة لقرارات القيادة المركزية التي تحدّد الأهداف الكبرى. وأصبحت "البيعة" التي تشكل عاملاً أساسياً في "الولاء" ظاهرة شكلية لا أكثر.

على ساحات المنتديات والمواقع "الجهادية"، يمكن التأكد من هذا الواقع، فالخلافات التي تعصف بأتباع هذا الفكر كبيرة جداً. فكل فصيل يعتبر نفسه "الطائفة المنصورة" القادرة على قيادة "الأمة" نحو "الخلاص"، وما حصل بين تنظيمي جبهة "النصرة" و"الدولة الإسلامية" في سوريا أكبر دليل.

في هذا السياق، من الممكن الإشارة إلى رفض زعيم "الدولة" ​أبو بكر البغدادي​ مبادرة زعيم "​جبهة النصرة​" أبو محمد الجولاني، التي تنص على أن يتنازل الإثنان عن زعامة التنظيمين ويختارا "أميراً جديداً" عليهما تحت اسم "قاعدة الجهاد في الشام"، بحسب ما أعلن عضو مجلس شورى الجبهة أبو عبدالله الشامي، في تسجيل صوتي نشر في وقت سابق على موقع "يوتيوب"، حيث كان من المقترح "أن يتم عقد اجتماع ثنائي بين الجولاني والبغدادي ثم يلزم كل واحد منهما جماعته بما اتفقا عليه، على أن يتنحى كل من الجولاني والبغدادي وتبعث كل جماعة بمرشح منها إلى زعيم "القاعدة" أيمن الظواهري وما يقره الأخير يكون أميراً".

هذا الرفض يؤشر، بالحد الأدنى، إلى أنّ هناك من يرفض التنازل من أجل نصرة "المبادئ" التي يحملها، نتيجة عدم الثقة بالقيادة المركزية المتمثلة بالظواهري، خصوصاً أن الأخير كان منذ البداية، من وجهة نظر البغدادي، يقف إلى جانب الجولاني بعد الإعلان عن "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، ووُجّهت له الكثير من الإتهامات لهذا السبب.

على صعيد متصل، تكشف الوثائق السرية التي عُثر عليها في مخبأ بن لادن بعد مقتله، هذا الخلل التنظيمي الذي بات الحديث عنه أمراً طبيعياً. حيث يقدم زعيم "القاعدة" ملاحظات إلى قادة التنظيم في بعض الدول تدل على ذلك، فيدعو الشيخ (محمود) الليبي عطية عبد الرحمن إلى "إفادة الأخ بصير (ناصر الوحيشي زعيم القاعدة في اليمن) بأن يكون الظهور الإعلامي مهمته.. ولكن عليه التقليل من الظهور في هذه الفترة إلا للضرورة، وإن استدعت الضرورة أيضاً أن يصدر أحد الإخوة خطاباً فيتم إطلاع بصير عليه قبل بثه على الإعلام، وتتم الإشارة له "إن لم تكونوا قد أشرتم بأن خطاب الأخ سعيد الشهري الذي صدر عن اعتقال إحدى الأخوات في بلاد الحرمين لم يكن مناسباً في ذلك التوقيت".

في مكان آخر، يتوجه بن لادن إلى أتباعه في اليمن متحدثاً عن ضرورة أن تبقى هذه البلاد هادئة، على عكس ما كان عليه الواقع الفعلي، حيث يقول: "تبقى اليمن هادئة، وندخرها كجيش احتياطي للأمة.. مع استمرار استنزاف العدو في الجبهات المفتوحة، الى أن يصل الى مرحلة الضعف التي تمكننا من إقامة دولة الإسلام".

أما بالنسبة إلى الخلل التنظيمي الواضح، فيمكن ملاحظته من خلال قول بن لادن: "رغم أن هذه السياسة واضحة في أذهان الإخوة الكبار إلا أنه ينبغي التذكير بها مكتوبة لجميع الاخوة، مع ملاحظة أنّ هناك أجيالاً جديدة من الشباب انضمّوا الى مسيرة الجهاد، ولم تتم توعيتهم بهذا الأمر، مما يؤدي الى القيام بعمليات فرعية بدلاً من التركيز على الأصل".

بالإضافة إلى ما تقدم، يستطيع أي متابع لعمل هذه الحركات في السنوات الأخيرة، أن يلاحظ أنها تعرض خلافاتها بشكل علني، في حين أن طبيعة عمل هذا النوع من التنظيمات تفرض السرية المطلقة، وإلا كيف يمكن أن يفسر لجوء بعض قيادات الفصائل في سوريا والعراق واليمن إلى طلب رأي زعيم التنظيم العالمي في مسائل مصيرية، عبر مواقع التواصل الإجتماعي، وهنا يمكن الإشارة إلى أن أحد أبرز قيادات "النصرة" أبو ماريا القحطاني تحدث، قبل أشهر، بشكل واضح عبر حسابه على موقع "تويتر"، عن أن "الحركة الجهادية في العالم أجمع تمر بمرحلة لم تسبقها سابقة، ضمن غموض مبهم يعلمه إ القليل من أهل السبق والعلم"، ويقدم الكثير من النصائح والملاحظات إلى زعيم "القاعدة" الحالي أيمن الظواهري، ما يؤشر إلى غياب قناة الإتصال المباشرة التي تغنيه عن هذا الأسلوب.

الأسباب التي أدت إلى هذا الإنهيار

من خلال ما تقدّم، يمكن فهم بعض الأسباب التي أدّت إلى بروز عوامل الضعف التنظيمي بين القيادة المركزية والفصائل التابعة لها في العالم، والتي قد يكون من الممكن، بعد التأكيد أن من غير المفيد التعامل مع هذه التنظيمات على أنها أدوات مسيطر عليها من قبل أجهزة المخابرات العالمية، وحصرها بالتالي:

1- ما تحدث عنه بن لادن نفسه بالنسبة إلى "أجيال جديدة إنضموا إلى مسيرة الجهاد ولم تتم توعيتهم"، وهذا يعود بشكل أساسي إلى غياب القاعدة المركزية التي يتم الإستناد إليها بالعمل، لا سيما بعد الحرب الأميركية على أفغانستان نتيجة أحداث الحادي عشر من أيلول، حيث لم يعد هناك من معسكرات تستطيع من خلالها القيادات الأولى متابعة ما يمكن تسميته بـ"المقبلين الجدد".

2- ظهور القيادات الفرعية في أكثر من مكان، لا سيما في العراق مع أبو مصعب الزرقاوي، حيث كان الرجل يسعى من خلال تصرفاته إلى أن يكون الوريث الشرعي لبن لادن قبل أن يموت، وهو كان يتصرف بحسب الإستراتيجية التي يراها مناسبة نظراً إلى سيطرته على أرض الواقع، مع العلم أن الزرقاوي كان على خلاف مع قيادة "القاعدة" في التوجهات منذ كان موجوداً في أفغانستان قبل الإنتقال إلى العراق نتيجة المعارك هناك.

3- الإجراءات الأمنية المشددة المتخذة من قبل ما تبقى من قيادات "القاعدة" الأساسية، نظراً إلى المخاطر التي كانت تحيط بها، والتي أدت إلى غياب قنوات التواصل المباشرة مع القيادات الفرعية، ما شكل ضعفاً شديداً على مستوى قنوات الإتصال.

4- عمليات التجنيد الإلكترونية التي كانت تقوم بها بعض الفصائل، في حين كان يتطلب دخول أي شخص في السابق متابعة دقيقة من قبل أفراد محيطين به موثوقين من التنظيم الأم، على غرار كل التنظيمات السرية، بالإضافة إلى تبني النهج من قبل فئات واسعة عن طريق المتابعة عبر وسائل الإتصالات الحديثة، التي سمحت لهم بالتعرف على الفكر والإطلاع على بعض الدروس العسكرية، وصولاً إلى تشكيل التنظيمات وتنفيذ العمليات ونسبها إلى التنظيم الأم من دون أن تكون قيادته على علم بها.

5- وفاة القيادات ذات الكاريزما المؤثرة في أكثر من مكان، والتمرد على بعضها نتيجة تصادم المصالح الفردية، لا سيما أن الملاحقات الأمنية نجحت في إغتيال الكثير من قيادات الصف الأول، وأبرزهم بن لان نفسه.

6- الإختراقات الأمنية من قبل بعض أجهزة الإستخبارات، والتي ظهرت بشكل أكبر مما كانت عليه في السابق نتيجة العوامل المذكورة في الأعلى، وهذا الأمر من الممكن إدراكه من خلال الإتهامات التي يوجهها كل فصيل إلى الآخر، فقد بات من الواضح أن عامل الثقة مفقود بشكل كبير.

في المحصلة، يمكن الحديث عن فوضى عارمة تعصف بالحركات "الجهادية"، وقد يكون ما نشهده اليوم أكبر دليل عليها، لا سيما بالنسبة إلى الإنشقاقات التي تظهر بين الحين والآخر، بالإضافة إلى أن المتابعين لعمل هذه التنظيمات يتحدثون بشكل كبير عن تعارض في التوجهات داخل قيادات كل تنظيم أيضاً، الأمر الذي يفسر في انتقال مجموعات من مكان إلى آخر بكل سهولة، ويكفي أن يتم ذلك من خلال "بيعة" والإعلان من خلال بيان أو شريط فيديو مصور ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي.

هذا لا يعني أن المعركة أصبحت في نهايتها، لا بل أن هذه الوقائع تحمل في طياتها الكثير من المخاطر، فالتعامل مع واقع تسيطر عليه الفوضى قد يكون أصعب من التعامل مع آخر منظم، إلا أن المقصود هو أن المعركة الأساسية يجب أن تكون على كسب البيئة الحاضنة من خلال الصراع الفكري أولاً وأخيراً.