تعد الحرب على سورية مسألة إقليمية ودولية من الدرجة الأولى على رغم وجود أحداث مماثلة في العراق واليمن وليبيا. فسورية بؤرة الصراع الأساسية لأسباب معروفة من أهمها الأسباب الجيوسياسية. والجيوسياسة تتعلق بالربط بين الموقع الجغرافي وأهميته بالنسبة للقوى العظمى وللسياسة الدولية من جهة وسياسات الدولة المعنية من جهة أخرى، وهي هنا سورية التي لها مواقف سياسية «مشاغبة» باعتبارها مواقف استقلالية لا تخضع لأوامر القوى العظمى.

لذلك فإن المعركة الحقيقية الفاصلة هي في سورية أولاً وآخراً. وسيتمكن المنتصر فيها من إعادة رسم جغرافيا المنطقة من وجهة نظر السيرورة التاريخية.

جعجعة تصم الآذان في الشمال: ما يحصل في شمال سورية يكاد يأخذ الحيّز الأكبر من الاهتمام الإعلامي والسياسي على المستوى العالمي. فعين العرب أصبحت ستالينغراد العصر، لا من حيث بطولات شعبها من أكراد وعرب وسريان وغيرهم فحسب، بل أيضاً من حيث الضجيج الإعلامي المتصاعد أيضاً. ولا أريد أن أنتقص هنا من أهمية ما يحدث في الشمال بالنسبة لتصدي سورية للعدوان الداعشي العثماني، فأرض الوطن متساوية القيمة مطلقاً، لكن أود أن أشير إلى جانب آخر من الحدث، وهو أن المبالغة في الضجة قد يكون أحد أهدافه لفت النظر عما يحدث في جنوب سورية بغية تمكين عملية اختراق سورية من «الخاصرة الجنوبية» وتوجيه الضربة القاصمة لها عبر تهديد العاصمة.

لماذا الجنوب؟: بالنسبة لأعداء سورية تفوق أهمية الجنوب أهمية الشمال لعدة أسباب: أولاً أنه هنا توجد «إسرائيل» العدو المطلق لسورية والمستفيد الأول من إضعافها باعتراف جميع الوثائق الإستراتيجية للصهاينة منذ بداية الأزمة. وعلى رغم أن تركيا تقع في الشمال، وهي معتد أساسي على سورية، إلا أن «الكيان التركي» ليس معادياً بطبيعته، أي بوجوده وبشعبه وبعدد كبير من قواه السياسية، وإنما العداء من الحكومة وحزبها فقط.

السبب الثاني: عدم وجود أنظمة حليفة أو محايدة كما في الشمال، حيث يوجد العراق الذي له علاقات جيدة أو على الأقل طبيعية مع سورية. أما في الجنوب فهناك عدا «إسرائيل» الأردن وخلفها السعودية، وهي أنظمة معادية للدولة السورية تماماً وتضع إسقاط هذه الدولة ونظامها السياسي هدفاً مركزياً، تعلن عنه الرياض بصراحة بينما تؤيده عمان ولو بخجل في بعض الأحيان.

السبب الثالث: قرب العاصمة دمشق من «أرض المعركة» في الجنوب. وضرب دمشق يعد ضرباً «للقلب النابض» لسورية، أما ضرب عين العرب أو الرقة فلا ينهي الدولة تلقائياً.

السبب الرابع: وجود لبنان في الخاصرة الجنوبية الغربية مع ما يتضمنه إشعال الداخل اللبناني من فوضى تضر بدمشق وتسمح للداعشية اللبنانية المنفلتة من عقالها بضم الجبهة الغربية في سورية القلمون إلى الجبهة الجنوبية «الإسرائيلية» الأردنية المدعومة سعودياً.

السبب الخامس: أن الجنوب لا يخضع مثل الشمال إلى هذا العداء الدولي ضد المسلحين داعش ، وأن مسلحي الجنوب بما فيهم «جبهة النصرة» يحظون بتعاطف أميركي، أوروبي، «إسرائيلي»، أردني، خليجي باعتبارهم «معارضة معتدلة» على رغم أن «جبهة النصرة» ذكرت بالاسم في القرار 2170 كمنظمة إرهابية.

لكن… ما هي الإشكاليات في الجنوب؟: يعلم «الإسرائيليون» وحلفاؤهم في الصف المعادي لسورية أن مسألة تحريك الجنوب ضد العاصمة دمشق ليست سهلة. هناك عدد من الإشكاليات التي تعمل «الخطة» على حلها في إطار تهيئة الظروف لهذه العملية. هناك أولاً مشكلة وجود «جبهة النصرة» التي تفضل «إسرائيل» عدم وجودها في المنطقة لأسباب تتعلق بالسياسة الدولية لمكافحة الإرهاب.

وهناك ثانياً مسألة «تطويع» الأردن ليدخل في العملية بشكل مباشر وعلني وقوي. وهذا ما تعمل عليه الرياض وواشنطن عبر إغراء الملك الأردني الذي اعتمد حتى الآن سياسة الدعم اللوجستي غير المباشر للإرهاب في سورية. وقد توافق عمان على الخطة إذا أجزت الرياض لها العطاء، وإذا اقتنعت بأن العملية ستكون «الضربة النهائية» لدمشق.

وهناك ثالثاً مشكلة المقاومة اللبنانية التي تدعم دمشق بقوة بحكم وحدة المصير ووحدة الموقف. وهناك أخيراً مشكلة تقدم الجيش السوري في الغوطة ما يضعف من قدرة «الحملة الإرهابية» على تطويق دمشق.

إن حل هذه الإشكاليات هو ما تعمل عليه غرفة «التنسيق الاستخباري» الأميركية «الإسرائيلية» السعودية الأردنية. وقد تقدمت الخطة عدة خطوات عبر إجراء تغيرات في قيادات الجماعات الإرهابية في محافظة القنيطرة كي تكون موالية تماماً لـ«إسرائيل». كما أن الدعم اللوجستي والعملياتي القوي الذي تقدمه «إسرائيل» عزز العمليات الإرهابية في المنطقة.

ما هو مسرح العمليات؟: تقع دمشق جغرافياً في منطقة «جيب» تحيطها الأراضي اللبنانية من الغرب والشمال ما يسهل الالتفاف عليها خصوصاً أن الإرهابيين يسيطرون على مناطق في الغوطة شرق دمشق. لذلك فإن الخطة تعتبر أن انتصارات الجيش في الشرق سوف يخفف من إمكانات «تطويق» العاصمة.

الردع المتوافر للخطة: يتمثل الردع في عدة عناصر أهمها: أولاً إسراع عملية الجيش للسيطرة على الغوطة وبخاصة دوما، ثانياً ضرب فلول الإرهابيين في القلمون والزبداني، ثالثاً وهو الأهم إفهام «إسرائيل» أن المقاومة اللبنانية ستتقدم نحو الجليل في حال تقدم الإرهابيون نحو العاصمة، وفق فاعلية الأواني المستطرقة. أما الانتباه إلى مخاطر ما يحصل في الجنوب فهو أول عناصر الردع على الإطلاق.