الإنقسامات السياسية والطوائفية في المنطقة تزرع الهواجس والمخاوف والتفجيرات. ومواجهة ذلك غير ممكنة إلا بالحوار الهادئ. فالفتن الطائفية تؤدي إلى التفكك والتفتيت والإنهيار. والحوار لمعالجة المشاكل هو ما دعا إليه قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في رسالته الملهمة للإعلام المرئي والمسموع والإلكتروني. وهذه الرسالة تلتقي مع الدعوة الأخيرة للزعيم الدرزي وليد جنبلاط حول ضرورة ’’الصحوة الفكرية‘‘.

وما ذهب إليه البابا كان قد استوقف سابقا الإمام السيد موسى الصدر الذي ربط الإعلام بالوظيفة التي تعطى له. فإما أن يكون بناءً أو أن يكون هداما. فالإعلام يصنع الرأي العام ويوجهه. وحاليا هذا ما نشهده في الواقع الإعلامي. فالتنظيمات الدينية المتطرفة تعتمد على مواقع التواصل الإجتماعي والمؤسسات المرئية والإذاعية والمكتوبة لتعميم الكراهية وإلغاء الآخر. ولا ينبغي أن ننكر أنها تستفيد من المناخات الطوائفية والإنقسامات لاستقطاب الشباب وخصوصا وأن ما يسمى الربيع العربي دفعته هذه التنظيمات إلى العنف وتصدَّرت ساحته وهددت وحدة مجتمعاتنا الهشة لأسباب كثيرة منها فشل الأحزاب السياسية وغياب البرامج الإجتماعية وبيروقراطية السلطة وفسادها واستبدادها.

بالتأكيد الإسلام براء من دعوات التهجير والقتل ومصادرة الأملاك وتهديد الأقليات. ’’فالأديان هي واحدة عندما نلتقي في الله‘‘ وهي في الأساس غايتها خدمة الإنسان وبنائه إلى أي دين أو طائفة انتمى. وخطورة ما جرى في العراق وليبيا وما يتهدد لبنان يُذكِّـر ما كان منظِّـر المحافظين الجدد ريتشارد بيرل يدعو له خلال الإحتلال الأميركي للعراق عندما رأى ضرورة إعادة بناء الهلال الخصيب استنادا إلى مكوناته البدائية الأولى... وهكذا استنتج بضرورة تقسيم العراق وسوريا ولبنان. واستثنى من ذلك اسرائيل والأردن... ومن هنا نحن إزاء تهديد وجودي يحاول إعادة رسم خريطة المنطقة على قاعدة التفتيت.

ما المطلوب للمعالجة ؟

أهم أمر لمواجهة هذا الخطر الوجودي المتمثل بالتكفير والإرهاب هو تحصين الوحدة الوطنية وإطلاق عملية حوار واسعة بين رجال الدين على اختلاف طوائفهم لتعزيز المشترك بين اللبنانيين ولإبراز القيم الدينية الواحدة واعتبار سقف الدولة الواحدة هو ما يستظل به اللبنانيون وتحفيز حضور هذه الدولة بمواجهة الفراغ وبتدبير شؤون الناس وتأمين خدمات الكهرباء والماء والإلتفاف حول المؤسسة العسكرية. هذا أولا على مستوى الحوار الإسلامي – المسيحي. ثانيا على صعيد الحوار السني – الشيعي فالأمر يقتضي تعريف ما هو المقصود بالإسلام المعتدل. إذ لا يكفي إطلاقا توصيف الإرهاب والتكفير عند الكلام عن ’’داعش‘‘ و’’القاعدة‘‘ ومتفرعاتها. فـ’’داعش‘‘ تدعو إلى إقامة الدولة الإسلامية واستعادة الخلافة والفتوحات العسكرية. وهي على الصعيد الأيديولوجي تستند إلى نص ديني على طريقتها لتبرير القتل والتهجير وتكفير الآخر. وبالتالي ’’الإسلام المعتدل‘‘ في الوسطين السني والشيعي مطالب بتفسير للنص الديني يلغي مزاعم التطرف الإسلامي ويؤسس إلى قراءة مشتركة. وعلى هذا الصعيد هناك تقصير من النجف ومن الأزهر ومن ايران والسعودية. وقد يكون لبنانيا سماحة المفتي عبد اللطيف الدريان هو الأكثر جرأة بين رجال الدين الذي قارب الموضوع من زاوية ايمانية عقلانية عندما طالب رجال الدين المتنورين وخطباء الجمعة ليـُعرِّفوا الإسلام كدين تسامح ورفق وانفتاح ومحبة ورحمة وعندما نزع غطاء النص عن ما يدعيه المتطرفون باسم الدين. ومن هنا أهمية التفسير المنطقي في مواجهة التطرف الإلغائي. ومن هذه الزاوية أهمية الإعلام في استضافة رجال الدين المتنورين كون الشاشة والمواقع الالكترونية تدخل كل بيت. وثالثا مطلوب حوار جدي بين الفريقين الأساسيين الثامن من آذار والرابع عشر من آذار حول كيفية تطويق ما يمكن أن يستغله التطرف الإسلامي من الإنقسامات السياسية والطوائفية لايجاد بيئة حاضنة له. ورابعا إطلاق دور النخب السياسية والفكرية والإجتماعية والإقتصادية والنقابات وأساتذة الجامعات والإتحاد النسائي لتعزيز الوحدة الداخلية والتعاون مع رجال الدين المتنورين. وخامسا اعتبار عودة اجتماعات النواب كمقدمة للخروج من الفراغ وباتجاه إحياء مؤسسات الدولة على اختلافها الرئاسية والتشريعية والقضائية. وسادسا على الصعيد الإعلامي البحت حجب خطاب التطرف وعدم إفساح المجال أمام المتطرفين للترويج لأفكارهم. وكذلك مواجهة الشائعات والأخبار الكاذبة. واستطرادا استقاء المعلومات من المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية حول عرسال والمخطوفين من الجيش وقوى الأمن الداخلي. وسابعا ينبغي أن نعترف أن الوضع المربك الذي نحن فيه على صعيد لبنان والمنطقة سيطول لسنوات على مستوى المواجهة العسكرية التي قد تكون دافعا لاستهواء الشباب ما لم تُبذل أقصى الجهود الأيديولوجية والدينية والوطنية لتدارك التداعيات السلبية على المستويين الوطني والاقليمي. وهذا يقتضي بالضرورة حوارا بين اللاعبَين الاقليميين الايراني والسعودي على المستويين اللبناني والاقليمي.

ثامنا فتح الحوار بين المخيمات الفلسطينية ومحيطها ومع القوى السياسية.

تاسعا وأخيرا فإن المسيحية المشرقية مطالبة بتنوير الرأي العام الغربي حول التحولات التي تطول المنطقة والتي لا يبدو أن دول الغرب تتلمس خطورتها على مستقبل هذه المسيحية المشرقية. فتهجير مسيحيي الموصل لا يعتبره الغرب الأميركي والأوروبي يُشكِّـل تهديدا لمصالحه الأمنية والإقتصادية والنفطية. وهذا خطأ فادح بل خطيئة جسيمة.

*رئيس المجلس الوطني للاعلام