تجاوز "الإسرائيليون" كلّ الخطوط الحمر التي يمكن للمرء أن يتصوّرها في هذا الشرق. أغلقوا أبواب المسجد الأقصى لأول مرة منذ احتلال القدس عام 1967، ومنعوا المؤمنين بشرائحهم كافةً من دخوله بل إعتدوا عليهم بالضرب المبرح. ولا يمكن لأحد إشاحة الوجه أو تبرير أو فهم فلش تلك القبضة العسكرية المزمنة فوق هذه المساحة الغالية والمقدّسة البالغة 142 كلم2 لأسباب وجيهة متعدّدة، أوّلها لأنّ هذه المساحة الصغيرة جغرافيّاً منقوشة فوق ملامح مسلمي العالم وبلدانهم وتاريخهم على الرغم من تلك التشظيات والصراعات المستمرّة التي إبتلوا بها مع "ثوراتهم العربيّة" المستوردة وإنهياراتها ونكباتها المتواصلة والتي ولّدت مناخاً يقرع أبواب"الحرب الكونيّة"، وثانيها أنّنا أمام صراع مزمنٍ عتيق تقضم "إسرائيل" مخاطره بالقطعة ،بالمعنى النفسي، منذ معضلة باب المغاربة وليس فقط منذ أعوام إنتقل فيه الهمس إلى النقاشات العلنية في داخل الكنيست، بسلخ الوصاية الأردنية عن الأقصى والتهديد"بحرقه" أو جعله مساحة مجازر مألوفة وصولاً الى حشر المؤمنين بالمسجد القبلي ، ومدّ اليد فوق ساحات المسجد وقبة الصخرة، والظفر بمكانٍ لصلاة اليهود فيه إستنساخاً لما حصل في الحرم الإبراهيمي بالخليل. وثالثاً لأنّ السيطرة على المكان أيّ مكانٍ حتّى ولم يكن مقدّساً يعني التمكّن والقوة والسيطرة في قواميس السلطة، وهذه معادلة تحصل في زمنٍ من الوهن أو الضعف العربي والإسلامي. ورابعاً يظهر في إلتماعات "الريق الحلو" الذي شجّع "إسرائيل" سواءّ أكان فوق ألسنة مندوبي مجلس الأمن الدولي الذي دعا الى عدم إدانة الاحتلال على ممارساته في القدس ضارباً عرض الحائط لكل القوانين الدولية والإنسانية أو عبر القراءة الأفقيّة لردود الأفعال المعتادة من إدانات وصمت عربي وإسلامي محيّرة.

سأخرج من هذه المحطّة الخطيرة نحو الفاتيكان ولبنان تحديداً والمسيحيين فيه أكثر تحديداً على إعتبار أنّ الأقصى مسألة لا تعني الفلسطينيين وحدهم ولا المسلمين بل المسيحيين بكلّ ما يعنونه في الوجدان الكاثوليكي والعالمي. لماذا لبنان؟ لأنّ فيه دمغة الإرشاد الرسولي الذي وقّعه الفاتيكان فوق صفحة لبنان . ويمكن اختصار روح الإرشاد هذا، بأنّه دعوة وصلاة من أعلى مرجع ديني كاثوليكي في العالم إلى ضرورة انخراط الأقلّيات المسيحية في الشرق في محيطات المسلمين اللامتناهية الهادرة والمستيقظة، والسباحة فيها وفقاً للمثل والقيم السماوية المتداخلة والمتجانسة بما يصبّ في مصلحة السلام لشعوب المنطقة ولاستقرارهم . إنّ القراءة المعمّقة لهذه الدمغة ترشدنا الى حجم المعلومات والسلطات التي تقبض عليها دوائر الفاتيكان وتديرها وتؤثّر فيها في العالم، تجعل العقل العارف يتمهّل، إن لم يتوجّس، من أن يورث هذا الإقبال الديني الغربي على الشرق من النافذة اللبنانية، جرحاً لاواعياً أو صدمةً أو نقزةً أو يقظةً تاريخية لدى الكثير من المسلمين . والسبب في ذلك تصاعد الحميّة لدى الأقليّات، معظم الأقليات في الشرق الأوسط، والكلام المعلن والخفي الغربي الذي يمكن رصده والذي قد ينذر بمخاطر كبرى، لسببٍ بسيط هو كونه يأتي عالي النبرة وقد تحوّل الى أفعال دموية ودعوات انفصالية وتقسيمية في العراق وسوريا ولبنان وعبر مناخين هائلين يغطّيان سماء المنطقة العربية، وأعني بهما: مناخ "الثورات العربية" المتنقّلة بين العديد من عواصم العرب من ناحية، ومناخ الحريّة والسيادة والديمقراطية والعدالة الذي يعبّ من معين التجارب الغربية . وهنا ينقسم الفكر العربي بين نقد التوجه نحو الأصوليات ونبش الماضي الإسلامي المتظهّر دموياً فيربطه مع دوائر العداوات المطلقة للغرب، بينما يدير آخرون الظهر متبسّمين لما يحصل إذ يرون فيه مستوردات غربيّة معقّدة لكنها لا تحمي الأصول والجذور والمقدّساتهذا الإنقسام الفكري لا يعنيني كمسيحي، بل يعنيني أكثر أن أسمع صوت الفاتيكان ومواقفه تصدح في العالم حيال ما يجري في الأقصى. فالتجربة المريرة مع" إسرائيل" تفصح على الملأ أنّ لا تمييز بين الأديان مسيحية أكانت أم مسلمة في قاموس الغطرسة الإسرائيلية. وعلى أيّة حال ، يفترض الإقرار، بأنّ بابا الفاتيكان النحيل اليد ليس دولة صغيرة ممدودة بإشارات السلام والإستقرار وحسب، ويتوق المؤمنون إلى تقبيل خاتماً يبرق في بنصره، بقدر ما هو نافذة مفتوحة على دوائر القرار في العالم، ليطلّ من خلالها على جروح المسيحيين فيعلن الشهادة والشراكة مع فلسطين كما مع المسلمين. وقد يكون في دفاعه عن الأقصى قادراً على حفر إرشاده في لبنان للمساهمة الفعّالة في خرط مستقبل المسلمين والمسيحيين ومقدّساتهم في القدس كما في العراق ومصر وسوريا ولبنان، كما في دول المنطقة، والحفاظ عليهم أصحاباً لكلمتي الله الثانية والثالثة، وفتح باب الحوار المقدّس مجدداً مع من أسلموا أمورهم للّه من المسلمين كما مع اليهود . يكفي التذكير إنّ صوت البابا في الأقصى إن حصل يأتي من مكانٍ لا يتجاوز ال 44 هكتاراً من الأرض لكن إليه تصل كل خطوط السياسة في العالم دولاً ومنظمات دولية بما فيها مجلس الأمن . أنّ زجاج "الكابيلاّ سكستينا" في الفاتيكان مزدانة بنصوص العهدين القديم والجديد، بينما يخرج التاريخ من جدران Sala Regia أو "صالة الرغيا" سلطات غير معتدّة بفعاليتها لمن يودّ قراءة تاريخ علاقات الكنيسة ومدى عظمته مع الأمم، وهو عالم معقّد مع أنّه يبدو بسيطاً وهادئاً لدى الغالبية العظمى من السياسيين والناس.

يمكن وضع هذا النص فوق طاولة البطريرك بشارة الراعي الذي منذ استوى فوق كرسي البطريركية المارونية، أطلق عنان أفكاره وديناميته وإيمانه العميق بلبنان المنفتح على العالم والقيادي، ويبدو وكأنه يحفظ كلمة سر تفسّر ما قام به، حتّى الآن، من زيارات انفتاحية واسعة تقي المسيحيين كما تشبك مع المسلمين المسلمين، التصدّي لشرور ما ينتظرنا جميعاً من مخاطر. وإن كان لبنان صاحب جناح مقيم مسيحي يهيض القليل من ريشه، فإن جناحه المغترب يكسوه ريش العالم وخيره وفيضه، ويليق فينا أن نمدّ تلك الجسور في ما بين الضفتين فيحيا لبنان، ولا تعود تسمع عن لبنان الإنتظاري للنفط والغاز أو المترقب لخراب البصرة بمعناها الواسع الذي يجعل خيرات الخرائب تجفّف أو تساعد في تجفيفها أوتسرّع. إذ ليس هناك أبلغ من تقريب المسافة بين الفم والأذن عند التحاور، عندها يختلط الوطني بالمقدّس أي بنسق القيم أي بالبقاء الصلب للأفصى كما لكنيسة القيامة.