بعد سبع سنوات على إنشائها، إنطلقت مطلع العام 2014 الحالي جلسات المَحكمة الدوليّة الخاصة بلبنان، في ضاحية "لايسندام" في "لاهاي"، على الرغم من كل محاولات العرقلة، بدءاً برفض الإعتراف بالمحكمة من أساسها، مروراً باستهداف عدد من الأمنيّين البارزين الذين لعبوا دوراً رئيساً في تحقيقاتها بتفجيرات غادرة(1)، ورفض خضوع المُتهمين الخمسة المنتمين إلى "حزب الله"(2)للمساءلة والمُحاكمة، وصولاً إلى تعمّد نشر أسماء الشهود لترهيبهم، بالتزامن مع المحاولات المُستمرّة لوقف تمويل لبنان لجزء من مصاريف المحكمة بهدف شلّ أعمالها. واليوم، تُحاول القوَى السياسيّة المُعارضة للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان، ضرب صُدقيّة شهادة الوزير ​مروان حمادة​ عن تدهور علاقة رئيس الحكومة الأسبق ​رفيق الحريري​ الراحل مع النظام الأمني – السوري في الفترة التي سبقت إغتياله، وتُروّج في تصاريح سياسيّة وكتابات صحافية أنّ علاقة الأخير كانت جيّدة جداً مع النظام السوري قُبيل إغتياله، فهل هذا صحيح؟

بالنسبة إلى الوزير مروان حمادة الذي كان في السابق على علاقةٍ طيّبةٍ مع النظام السوري بُحكم التموضع السياسي خلال الحرب اللبنانية، والذي تقلّب بمناصب وزاريّة عدّة في عهد الوصاية السوريّة على لبنان أيضاً، فهو إستقال في 9 أيلول 2004 من منصبه كوزير للإقتصاد الوطني والتجارة في حكومة الحريري الأخيرة مع غيره من أعضاء "الحزب التقدّمي الإشتراكي" رفضاً لتعديل الدستور وتمديد ولاية الرئيس السابق العماد ​إميل لحود​ تحت وطأة الضغوط والتهديدات السوريّة آنذاك. وبلغ تدهور علاقته مع النظام الأمني السوري – اللبناني ذروته بعد ذلك، ليتعرّض في الأوّل من تشرين الأوّل 2004، أيّ بعد أسابيع قليلة على إستقالته، لمحاولة إغتيال بسيارة مُفخّخة نجا منها بأعجوبة حيث قُتل مرافقه وأصيب هو بجروح بالغة.

بالنسبة إلى رئيس الوزراء السابق الراحل رفيق الحريري، فهو بدوره كان في السابق على علاقة طيّبة بالنظام السوري سمحت بتولّيه رئاسة خمس حكومات لبنانية مُختلفة، وتحديداً في الفترة الزمنيّة الممتدّة من العام 1992 حتى العام 1998. وبعد أن أُخرج من الحكم لنحو عامين، فازت كتلته النيابية بكل مقاعد بيروت في إنتخابات 3 أيلول 2000، ليفرض نفسه رقماً صعباً في المعادلة السياسيّة الداخلية، وليعود ويتولّى منصب رئيس السلطة التنفيذيّة من العام 2000 حتى تشرين الأوّل من العام 2004، مُستفيداً من السياسة التي كان يعتمدها النظام السوري لجهة الإبقاء على زعيم هنا وعلى منافسه اللدود هناك، لإبقاء الخلافات ولضمان الحاجة إلى الدعم الخارجي. وفي 20 تشرين الأوّل 2004، قدّم الحريري إستقالة حكومته، مُعلناً إعتذاره عن تولّي منصب رئاسة الحكومة، وذلك إعتراضاً على كل الجوّ السياسي الذي كان قائماً في حينه. ولم تمرّ بضعة أشهر حتى تعرّض للإغتيال في 14 شباط 2005.

وبالتالي، إنّ كل الأحاديث عن تقديم مفاتيح بيروت وعن تصاريح المجاملة والدعم والأخوّة من قبل كل من حمادة والحريري للنظام السوري هي صحيحة، لكنّ عدم وضعها في مسارها التاريخي الصحيح هو قمّة التزوير، وعدم الإعتراف بتدهور هذه العلاقة وبلوغها مرحلة الصدام الكامل في الأشهر القليلة التي سبقت محاولة إغتيال حمادة وإغتيال الحريري هو محاولة تضليل واضحة للتحقيق، لأنّ الوقائع التاريخيّة لا تكذب. وبغضّ النظر عمّا إذا كان السبب وراء تدهور العلاقة التمديد للرئيس لحّود والخلافات على توزيع السلطة في الداخل اللبناني، أو الخلاف على تنفيذ بعض بنود إتفاق الطائف لجهة إنسحاب قوّات الإحتلال السوري إلى البقاع، أو تباين وجهات النظر بالنسبة إلى السلاح في الداخل اللبناني، أو لأيّ سبب آخر، الأكيد أنّه في نهاية العام 2004 وبداية العام 2005، كانت علاقة الحريري والفريق الذي كان يدعمه سياسياً سيّئة جداً مع النظام السوري (باستثناء بعض الشخصيّات ومنهم عبد الحليم خدّام) والفريق الذي كان يناصره في الداخل اللبناني بدءاً بالرئيس لحود وصولاً إلى العديد من الشخصيات السياسيّة والإعلامية اللبنانيّة التي بلغت حد وصف الحريري بعبارة "بركيل قريطم". وليس سرّاً أنّ الحريري ومروان حمادة كانا من المُتهمين بالتسويق والتمهيد خارجياً للقرار الدولي رقم 1559 الذي كان صدر في 2 أيلول 2004(3).

ومن الطبيعي أنّ يُواصل اليوم المُتضرّرون من المحكمة الدَوليّة التشكيك بإفادات الشهود الذين سيدلون بما يعرفونه أمام قضاة ​المحكمة الدولية​ في "لاهاي"(4). فالكلام السياسي يُقابل بكلام سياسي مُضاد، والهدف ذرّ المزيد من الرماد في العيون، في إطار سياسة مُمنهجة بدأت بُعيد إغتيال رئيس مجلس الوزراء السابق رفيق الحريري و23 شخصاً آخرين في 14 شباط 2005. وهي لم تتغيّر طوال فترة الإغتيالات الدَمويّة التي طالت بأغلبيّتها شخصيّات سياسية وإعلامية وعسكريّة محسوبة على قوى "14 آذار"، وصولاً حتى إغتيال الوزير السابق محمد شطح في 27 كانون الأوّل 2013، وهي لن تتغيّر اليوم ولا غداً، علماً أنّنا نقترب بسرعة من الذكرى العاشرة لاغتيال الحريري، من دون الوصول إلى نتيجة حاسمة بعد.

لكن نجاح المُتضرّرين من المحكمة الدولية في عرقلة جهودها الرامية إلى كشف الفاعلين، عبر سياسة الإغتيالات وتخويف الشهود، وعبر رفض تمويل المحكمة وإتهامها بأنّها إسرائيليّة، وعبر مهاجمة كل المشاركين في شهاداتها، وخصوصاً عبر رفض إخضاع المتهمين للمساءلة، لا يعني أنّ الجرائم لم تقع ولا يُسقط الإتهامات المُوجّهة. فالعجز اللبناني - الدَولي عن القبض على الفاعلين لا يُلغي جرائمهم. وإذا سلّمنا جدلاً أنّ المحكمة الدولية إسرائيليّة وعبارة عن "مؤامرة دَوليّة"، لذلك لم تتمكّن أجهزة التحقيق اللبنانية من كشفها، ووجّهتها الأجهزة الدَولية نحو هدف أو أهداف محدّدة تخدم هذه المؤامرة، فإنّ عدم التحقيق في كل الجرائم المترابطة التي تلتها خلال العقد الأخير، وأحدثها جريمة إغتيال الوزير شطح، يؤكّد أنّ النيّة الداخلية في كشف الجرائم غير موجودة من قبل طرف سياسي أساسي في لبنان، بفعل التورّط المباشر أو أقلّه التغطية على المتورّطين، وأنّ القدرة على المحاسبة غير متوفّرة لدى طرف سياسي أساسي آخر في لبنان، بفعل الضعف والعجز الكامل عن المواجهة!

(1)في طليعتهم الرائد في القوى الأمن الداخلي وسام عيد الذي نجح في وضع خريطة الخطوط الهاتفية التي شاركت في جريمة إغتيال الحريري، والذي إغتيل عند تقاطع فرن الشباك الحازمية في كانون الثاني 2008 بعد محاولة فاشلة لإغتياله في العام 2006 في "حي الأميركان" على أطراف الضاحية حيث كان يسكن في حينه، وصولاً إلى وسام الحسن الذي إغتيل في الأشرفيّة في 19 تشرين الأوّل 2012، علماً أنّ المقدّم في قوى الأمن الداخلي سمير شحادة وهو أحد مسؤولي التحقيقات في قضيّة إغتيال الحريري نجا من محاولة إغتياله في منطقة الرميلة في 5 أيلول 2006.

(2)في 29 تمّوز 2011 أعلنت المحكمة الدولية أسماء أربعة مشتبه فيهم ينتمون إلى "حزب الله" هم مصطفى بدر الدين (صهر القيادي في "حزب الله" عماد مغنّية الذي إغتيل بدوره في إنفجار قي دمشق في 12 شباط 2008)، وسليم جميل عيّاش، وحسين حسن عنيسي، وأسد حسن صبرا، ثم أضيف متهم خامس هو حسن مرعي (أضيف إلى لائحة المُتهمين الأربعة في تشرين الأوّل 2013).

(3)أبرز بنود القرار الدولي 1559 طالبت "جميع القوات الأجنبيّة المتبقّية في لبنان بالإنسحاب، ودعت إلى حلّ "جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانيّة ونزع سلاحها".

(4)أبرزهم (مع حفظ الألقاب) فؤاد السنيورة ووليد جنبلاط ومروان حمادة وباسم السبع وغطاس خوري وهاني حمّود.