… وكأنّ هناك تدميراً منهجياً للمؤسسات الدستورية، لكل ركائز الدولة وأسسها. ثمة من يتعمّد تحطيم الهيكل على رؤوسنا جميعاً، غير عابئ بما سنورثه لأبنائنا من ديون ثقيلة، وخراب مؤسساتي وفوضى قانونية، لن تعفي أحداً من ضريبتها.

يكاد الجميع يكون متواطئاً في هذا التفتيت البطيء للقيم الدستورية والاستحقاقات الانتخابية التي يُفترض أنّ تكون بمنزلة عالية، أقرب إلى القداسة، التي لا تُمسّ ولا تُقارب. على مرأى من شعب ضربه اليأس والقهر وذلّه الفقر والعوز، تمارس القوى السياسية كلّ ساديّتها في تغليب مصالحها الفئوية الخاصة على المصلحة العامة. وما من يحاسب.

تسللت الفوضى إلى جسد الدولة الهزيل، وراحت تفرض قواعدها العبثية عليه: لا رئاسةً للجمهورية، ولا أملاً ينبئ بإمكانية نفض الغبار عن الكرسي المخملي في وقت قريب، لتستضيف رئيساً يعيد تصويب المسار، ويعوّض على اللبنانيين وعلى المسيحيين تحديداً، زمن الشغور القاتل، ويعيد إلى الموقع هيبته وإلى الختم قيمته.

لا انتخابات نيابية تحترم المواعيد الدستورية وعقول المواطنين وأبسط قواعد الديمقراطية. لا بل تمديد وقح للفراغ وليس للهروب منه، دقّ المسمار الأخير في نعش المجلس الدستوري الذي أسلم روحه إرادياً بعدما تعمّدت الطبقة السياسية طعنه في قلبه، لتبقيه جسداً من دون روح.

لا حكومة منتجة تسأل عن حاجات الناس وعن وجعهم، لا بل طاولة سمسرات تتقاسم ما تبقى من قالب الجبنة وتملأ الفراغ ببعض الثرثرات السياسية غبر النافعة.

انتظر المواطنون من تلك الحكومة أن تقوم بالحدّ الأدنى مما هو مطلوب منها. كأن تباشر إصلاحاً إدارياً صار عمره من عمر الطائف، أو إصلاحاً مالياً صار حاجة ملحة لإطفاء الدين الذي يأكل أخضر وارداتنا ويابسه، أو أن تحسّن القدرة الشرائية وتعالج أزمة البطالة التي تدفع شبابنا إلى الهجرة، فترك صناعاتنا وزراعاتنا وحتى سياحتنا للأيدي العاملة الأجنبية… وإذ بها تتلهّى بجنس الملائكة.

إنه ليس الفراغ الذي يخيفوننا به. إنه الجمود القاتل الذي يسمّم عقولنا وأحوالنا. وبدلاً من أن تسعى السلطة السياسية إلى إحداث صدمات إيجابية من شأنها تحريك الوضع الاقتصادي، بالدرجة الأولى، ها هي تمعن في تلقيننا صدمات كهربائية كي تزيد من حال الشلل، ومن حال الغيبوبة القسرية.

يجاهر بعض السياسيين بلغة الواثق، وفيها الكثير من الوقاحة، بأنّ لبنان ليس مدرجاً على لوائح الاهتمام الإقليمي. يبلغوننا بالفم الملآن بأننا ما زلنا قصّاراً، عاجزين عن إدارة شؤوننا بأنفسنا، ولا بدّ من وصيّ يمسك بأيدينا ويدلنا إلى الصواب. لا بد من راع يفصّل لنا التوافقات ويلبسنا إياها، فنكتفي نحن بالتصفيق لإنجازات الخارج لنا.

ونحن نقول لهم: يا سادة، لسنا بحاجة إلى أولياء أمر، وإنما إلى رجال دولة قادرين على الوقوف في وجه العاصفة، يحترمون تواقيعهم وكلامهم، يغلّبون مصلحة ناسهم على مصالح جيوبهم وحسابات «الأوصياء» عليهم.

نعم، لبنان لم يعد على الخريطة الإقليمية لأنّ بعض طبقته السياسية عاجز عن التقدّم خطوة نحو الأمام، للبحث عما هو مناسب للمصلحة العامة. فالتوافق خشبة خلاصنا مهما كابرنا عليه وتهرّبنا من أثمانه، فلماذا دفن رؤوسنا في الرمال وانتظار من يملي علينا أجنداته؟

نعم لبنان لم يعد على خريطة الدول التي تحترم مواثيقها ودساتيرها، فكيف يمكن للمؤسسات الدولية أن تحترمنا؟ كيف يمكن لنا أن نحافظ على ما تبقى من سمعة لبنان أمام المحافل الدولية، السياسية والاقتصادية؟ كيف يمكن لنا أن نواجه استحقاقاتنا المالية وقد شارفنا بلوغ الهاوية؟ كيف نقنع المجتمع الدولي بأننا قادرون على الالتزام بوعودنا وبالاتفاقات الموقعة مع المؤسسات النقدية؟

إنّ ما نشكو منه ليس تعدياً موضعياً يمكن إصلاحه بشطبة قلم أو بقرار إداري، وإنما نشكو من فساد صار ثقافة عامة لا نجد من يتصدّى لها. إننا نرفع آخر صرخاتنا كي ننقذ النفس الأخير من مؤسساتنا… كفانا فرصاً ضائعة.