"جمّعت ربي الخليقة بصوتي تناجي وسبحت تتغنّى

وتملّت في رفعة الرأس والطرف جثوًّا من ركبتين ووهنا

وأنا أستجير بالرحمة الأولى بنور الأنوار بالينبوع

أن تقبل ربّي قرابين حبّي وذلّتي ودموعي"

(​سعيد عقل​، قدموس)

انبسط الفجر على محيّا سعيد عقل في الرحيل كما في الحياة، وراح يحتدم في ذاته كلمات انفجرت في لحظات عشق ودفء حتّى الانبهار والانخطاف إلى السعة الكبرى مستجيرًا بالرحمة الأولى، عطشًا إلى كل بداءة تتفتّح مع خيوط ذهبيّة ينسجها الفجر في لحظات الولادة ومنها إلى القيامة.

أنّى لسعيد أن يتسربل البهاء، أو يصير كلمة خالدة، لو لم يولد من فوق، وقد ذاقه وانفجر به على مدى مئة وسنتين. هذا "الفوق" عنده ليس المدى المنفصل عن التاريخ. فالتاريخ يولد كما الكائنات، ولكنّه يولد كلمات أقوى من الأزمنة الرتيبة، هو كون منفصل عن مسرى الأحداث، لأنّ الشاعر في صناعته "يزامل الله في الخلق".

جمهوريّة سعيد عقل، هي اللغة الجديدة التي لا يسوغ النطق بها، إلاّ بعد التعرّي من الترابيّة والالتصاق بالضياء. هذا الكلام أستعيره من سعيد عقل نفسه الذي كانت حياته مجبولة بالضوء، تسير بهداه، ولم يغرق البتّة في ما اشتهاه الناس ليومياتهم ودنياهم، لأنّ بيته كان الكلمة، وحجارته وعقده كلمات لم يقلها إلا غزلاً لجمال بلوريّ، أو مناجاة كونيّة لإله أزليّ، أو دفاعًا عن وطن رآه في عقله ودماغه وأسكنه قلبه، ولم يكن بالإمكان أن يفصل المرء بين لبنان الوطن وشعر سعيد، لأنّ الوطن كلمة.

كثيرون اختلفوا مع سعيد عقل في ماهيّة لبنان بهويته وقوميّته ومحتواه اللغويّ، وفي كلّ هذا كان علامة فارقة في تاريخ لبنان المعاصر والحديث. ولم يكن الخلاف معه سهلاً، إذ هو يجيء من رؤى صلبة تحتاج إلى المزيد من القراءة والتدقيق. غير أنّ ما لفتني في معظم لقاءاتنا العائليّة معه، وكم مرّة تكرّم وزارنا في منزلنا العائليّ برفقة أحبّة لي وله لا أنساهم على الإطلاق كالسفير فؤاد الترك الصديق الغالي الذي حتمًا سيحتفل باللقاء معه، والحافظ لكلّ قصائده بلا منازع، والشاعر الحبيب بل أستاذ الشعراء جورج شكّور، صديقه لخمسين سنة مضت، والأديب الراقي والشفاف أمين زيدان في بعض الأحيان، بأنّه لم يحد يومًا عن إيمانه المطلق بالله، واستلهم من خيوط الأزل ما يسعفه لنسج شعره، ورآه حتمًا بهذا العاري على الصليب حيث انكشف رحمة للعالمين بل الرحمة الأولى. وفي الوقت عينه لم يفرّط على الإطلاق بانتمائه الجوهريّ لوطن رآه مشرقًا من فم الله، ولم يره من غير سواه.

لم يرق لكثيرين من النقاد، غوص سعيد عقل في اللغة المحكيّة واعتبار الفصحى وكما قال غير مرّة بأنها لغة ميتة Une langue morte وأعطى بعضًا من الأمثلة وفيها محاكاة للعصر. فالدراسات الحديثة أظهرت أنّ اللغة الفصحى في حقيقتها وتركيبتها ثالوثيّة بامتياز. هذا التحديد أوجده الدكتور كمال الحاج رحمه الله، بتفصيل كلّ حرف من أبجديتها ليكتشف أنّ كل حرف مؤلّف من ثلاثة حروف. هذا عينًا يناقض فلسفة سعيد عقل التي اعتبرت اللغة ميتة في العمق، فما بني على الثالوث، أو الثالوثيّة انساب من الله، فكيف تكون اللغة بهذا المعنى ميتة؟ ذوقي للعروبة وبهائها جاء من زاويتين، زاوية مسيحيّة ولاهوتيّة، وأخرى شعريّة مكمّلة مثّل سعيد عقل كما جورج خضر إحدى أعمدتها الرخاميّة. وتحرّرت من الصراع القوميّ والعقائديّ الملتحف بنزاع الطوائف اللبنانيّة، على الرغم من انبثاثه ما بين سعيد عقل وجورج خضر وعبد الله العلايلي وآخرين. شعر سعيد عقل ظلّ المدى المتعالي فوق القوميات، وهو الفضاء الذي أغنى العروبة من دمشق إلى القاهرة وبغداد إلى القدس.. بذهب التاريخ منسابًا من قصائد فيه المجد ينحت.

عذوبة الشعر عند سعيد عقل وعنفوان الوجود، صيغ بهذه اللغة عينًا. يسوغ لمن ذاق شعره وعاصره معاصرة الوجد والوجود، أن يعتبر بأنّ لغته لا تشبه هذا العالم، ولا تشبه التفه فينا. كما في مقاربة واقعيّة إنّ سعيدًا ما كان صائغًا، مع العلم أنّ الصياغة من أرقى الفنون، ولكنّه نحّات كرودان العظيم، حمل إزميله، وأخذ الصخر وحولّه إلى وجود ناطق، إلى ملكوت يلعب فيه الله لعبة الخلق من جديد. هذه منحوتة فلنقف أمامها بتهيّب وخشوع، فنفهم حينئذ معنى اللغة في انبثاث الخلق، وابنلاج ملكوت جديد:

"لي صخرة علقت بالنجم أسكنها طارت بها الكتب قالت تلك لبنان

توزّعتها هموم المجد فهي هوى وكر العقابين تربّى فيها عقبان".

تحملني لغته الشعريّة من هذه الزاوية للقول بأنّ الشاعر إذا ما اختفى خلف الكلمة يصير هو كلمة. تجربة سعيد عقل دلّت على هذه الحقيقة غير القابلة للجدل. فقد شغف بما سكب عليه واعتبر نفسه مسكتتبًا بل مكتوبًا بمجد لم يقرأ مجده الشخصيّ منسكبًا به، بل قرأ مجد وطنه مولودًا من رحمه. هو من القائلين، بأنّ المجد هو كرامة الإنسان وسيان ما بين المجد والكبرياء. الكبرياء الفارغ عنده لا يحاكي المجد المليء بالرؤى. والكرامة صورة الله في الإنسان، وهي التي تحدّد كل انعطافة وحراك ووصال وجمال وجلال.

سألته مرّة وأنا من مريديه في ملكوت شعره. كيف يا معلّم وهذا هو لقبه العزيز على قلبه تنظم شعرك. أجابني حين تحبّ تنظم وتتم الولادة. المحبة مصدر الكرم ، وبلا كرم لا يكون ثمّة إبداع وشعر، وأردف قائلاً: "شفتلّك شي بخيل شاعر كبير؟ بدّك تحطّ من قلبك حتّى يولد الشعر". كانت لذّتي أن أذوقه في كلّ أمسية سواء في منزلنا العائليّ إلى جانب والدي، أو عند أصدقاء بعضهم رحلوا كالسيدة الراقية نبيهة الياس، وفي كلّ مرّة نظم قصيدة جديدة كمثل قصيدته لنقابة المحامين أو عبد الله العلايلي أو فؤاد أفرام البستاني، كانت رنّة صوته بها تصدح من منزلنا، ونطرب لهذا البهاء الذي أفاضه علينا.

وإذا انكسر الجسد بعد شيخوخة دامت مئة وسنتين، فإنّه شلح أرز انغرس وتجذّر في أرض لبنان، لتنبت منه جذوع لربيع آت. سعيد عقل أيها البهيّ، أنت وشعرك جسد نورانيّ، كيان من كلمات صيغت من شعاع الشمس واتحفت ضوء القمر، "يارا الجديلها عمر فيهم بيتمرجح عمر". هل الشعر من بعدك مات؟ هل انطفأ الحلم؟ لا يا سعيد. أنت الشعر والكلم، أنت الحلم والأمل، والمجد عنك لم يغب، ولن يغيب. أنت قربان الحبّ يتصاعد من أرضنا من فؤادنا، من زحلة أرض الشهامة والنبل، رحم الرجولة والكرم، جارة الوادي وعشيقة القمر، إلى نور الأنوار اذهب الآن واعلُ مستزيدًا بالرحمة الأولى. هناك قل لربّك وبصوتك المحتشدة به الخليقة:

"وترأف يا أيها السعة الكبرى ترأف باللائذ المحتاج

وانصر القابسين من فيضك النور إلى الكوكب الضلول الداجي

لألأت كل هضبة فوق لبنان تصلّي وهام كل فضاء

وتسامى مجامرًا جبل الأطياب فافتح يا رب باب السماء".