يعيش بعض المسيحيين حالات ندب وبكاء على الأطلال، تُغرقهم في نوستالجيا قاتلة لماضٍ لم يعد موجوداً... مع أنّ مراجعة واقعية للتاريخ وتجاربه، ترفع من منسوب التفاؤل، المشروط بعوامل عدّة لا بدّ من تحققها.

لطالما واجه الوجود المسيحي في لبنان صعوبات وتحديات، ومعاناته عبر العصور كانت متنوعة. مرّ المسيحيون بفترات اضطهاد وغزوات وحروب داخلية وخارجية، وعانوا من مشاكل اجتماعية، اقتصادية ومعيشية، دفعتهم إلى هجرات متلاحقة وكثيفة.

إلا أنّ ذلك لم يمنعهم من المبادرة للحؤول دون فقدانهم دورهم، لا بل على العكس تحوّلوا في مطلع القرن الماضي قوة كبيرة حيث كانت لهم بطولات وانجازات مهمة وتاريخ مشرّف أنصفهم فيه أعداؤهم قبل محبيهم.

بعد قراءات ونقاشات مع رجال دين ومؤرّخين وغيرهم، تكوّنت لدي بعض الملاحظات والمفارقات:

يملك هذا المجتمع غزارة في الانتاج الفكري، إلّا أنّه لا يُقرن الأفكار بالأفعال بخاصة في مجال السياسة. وبحسب تشخيص بعض الكتاب والمفكرين ثمة أنماط عيش مشتركة لهذه الجماعة: الانقسام، التفرد، الادعاء، الغرور، تكرار بعض الاخطاء في مواجهة الأزمات، الصراع الاعمى على النفوذ والسلطة، الهروب من مواجهة الحقائق، التحول سريعاً إلى حقيبة سفر...

إنّ الحياة مليئة بالتحديات ولن نتمكن يوما من تجاوزها كلّها. لذلك يبدأ الحل عندما يتملكنا الاقتناع بأننا أصل المشكلة، وفينا يكمن العلاج.

ولهذا لا بدّ لنا:

- من الإتحاد أمام المخاطر الوجودية، وتحديدها بعد قراءة متأنية للوقائع والتجارب.

- ترسيم الحدود بين التعددية المفيدة والإنقسام القاتل.

ان الطبقة المثقفة، مدعوة كي تستعيد ثقتها بنفسها وتعي انها قادرة، كلّ من موقعه، على فرض التغيير. لا مكان للحياد على المستوى الفكري، إنما على مستوى الحركة، لأنه فعل يطبّق على طرف آخر. لا يجوز ان نكون حياديين في مواضيع تؤثّر فينا مباشرة، أفراداً وجماعات، فكيف الحال إذا كانت مخاطر وجودية؟

يجب أن نقول "لا" عالية، ونحدد ما نريد، لدفع القوى السياسية للخروج من صراعاتها.

لذلك على المسيحيين:

- وقف انقساماتهم اللامحدودة وصراعهم القاتل على "سلطة" لم تعد موجودة. واذا كان تنوّعهم وتنافسهم مصدر غنى لهم في أيام الرخاء، فإنه يصبح قاتلاً في زمن المعارك الوجودية.

- إستعادة ثقتهم بأنفسهم. لم ينكر أحد علىيهم شجاعتهم ولا اقدامهم، فقد كانوا رمزاً لطموح الأفراد والجماعات الشغوفة الى التقدّم عبر تحصيل العلم. وتملك هذه الجماعة الكثير من الفضائل، وإنما عاب عليها كل من أعجب بها، انقسام أبنائها وخياناتهم لبعضهم بعضا، ما سمح لخصومهم وأعدائهم بإخضاعهم.

- تغيير بعض الموروثات في فكرهم الجماعي. فلا التكبّر على الآخر ينفع، ولا الهروب الدائم ينفع، ولا دفن الرأس في التراب من مواجهة المخاطر ينفع.

- القيام بعملية نقد ذاتي موجعة بفعل إرادة وجرأة لأنها وحدها الطريق إلى الخلاص.

إنّ قدر هذا الوطن أن يكون سبّاقاً ورائداً في محيطه. ولسخرية القدر فإن حصانته اليوم تأتي من لعنة الاقتتال الداخلي. فشعبه الذي اختبر الحرب واكتوى بنيرانها يعي أنّ الدخول في هذا النفق لن يربح أحداً والكل سيخسر. فرغم اللعب على حافة الهاوية، لا إرادة للسواد الاعظم من اللبنانيين على اختلاف طوائفهم لخوض غمار التجربة القاتلة من جديد.

يجب أن يعي المسيحيون أنّ مواجهة الأخطار التي نعيشها اليوم وتلك المرتقبة، لا تكون بالتعصّب والتقوقع، وإنّما بالإنفتاح على الآخرين ومشاركتهم مشاكلهم وهواجسهم. فطبيعة الصراع القائم مختلفة عن تلك السابقة، والمسيحيون ليسوا في عين العاصفة وليسوا هدفاً أول لها، ما يسمح لهم بالتفكير الهادئ.

إنّ الخروج من كبوتنا ليس بالأمر المستحيل رغم أنّ الطريق شائكة وطويلة، فالتاريخ يثبت أن معظم المجتمعات والدول واجهت أزمات وحروباً، كانت في بعض الأحيان أصعب من أزماتنا، إنّما عزم أبنائها وتوقهم للحرية ولحياة افضل، أخرجهم مما كانوا فيه وحملهم إلى مكان أفضل.

من هنا يجب البناء على ما هو مشترك ومساعدة بعضنا بعضا على تخطي هذه المشاكل. ولنتوقف عن توجيه أصابع الاتهام كأننا منزّهون عن الخطأ. فكلنا نريد توريث أبنائنا غداً أفضل من ذلك الذي نعيشه.

إنّ وحدتنا وتحديد المخاطر المحدقة بنا والتحلي بالجرأة لإعادة النظر بالخيارات ليس معيباً.

والتحدي الابرز امام المسيحيين هو في ادارة ازماتهم الذاتية والوطنية بأقل الخسائر الممكنة، لاّن غدهم مشرق. فحال التطرف الشاذة لن تدوم، وقد اصبحت ازمة كونية، ستولد مفاهيم اسلامية جديدة، وسيحذو الاسلام حذو باقي الشعوب والحضارات، فالتجدد ومواكبة التطور مسار حتمي. واحيلكم الى فولتير (voltaire) الذي تحدّث عن الانفتاح الاسلامي وعن العلوم التي حملوها عندما كانت اوروبا تناضل للخروج من عصورها المظلمة.

إما ان نحدد خياراتنا ونمسك بزمام المبادرة، فنكون جاهزين وشركاء في بناء المستقبل، وإما كما قال الأباتي بولس نعمان "سننزح الى متحف التاريخ".