لم يرقَ بيان "خليّة الأزمة" المقتضب والضبابيّ والمبهم، برئاسة رئيس الحكومة تمّام سلام، إلى مستوى دماء علي البزّال شهيد لبنان كلّه، وإلى مستوى دموع ذويه وعائلته وطفلته، وصراخهم بوجه الظلم الوحشيّ والجنون اللامتناهي وتلكؤّ السلطة السياسيّة بمواجهة هذا الملف بشدّة وحزم. ولم يقف، تاليًا، على جديّة تهديدات "جبهة النّصرة" بقتل عسكريين آخرين، وبخاصّة بعد اعتقال سجى الدليميّ وسيدة أخرى، وقبلها جومانا حميّد ورفيقة لها وعماد جمعة وجمال دفتردار ونعيم عباس، فبات لبنان مخطوفًا من شماله إلى جنوبه، ومن جبله إلى بقاعه، وشرايين عاصمته مقطّعة الأوصال بثورة الأهالي الموجوعين والخائفين على مصير أبنائهم، والخوف يبرّر "الغضب الساطع" المتفجّر من الصدور إلى الأرض.

تلك مأساة تراجيديّة بكلّ ما للكلمة من معنى. وما يزيدها عقمًا وتلاشيًا وتشنّجًا رزوح الدولة، وإفلاسها المطلق، وافتقارها إلى القدرة على معالجة هذا الواقع بحسم سياسيّ وأمنيّ وعسكريّ مسؤول. يقف سياسيّ عتيق، أمام تلك المأساة الهائلة مندهشًا ليقول: "لقد سقط لبنان بكلّ مقوّماته، وانكسر التوازن بصورة نهائيّة، وما يحكى عن حاجة دوليّة للاستقرار الأمنيّ بات خطابًا هشًّا، لكون لبنان بواسطة هؤلاء، لا يزال ساحة مشدودة لتسديد اللكمات من أرضه إلى سوريا، وإلى اتفاق غير معلن، ترجم بمفردة نجاح التفاوض، بين إيران وأميركا". ولم يستغرب السياسيّ العتيق دخول إسرائيل على الخطّ من جديد بغارة شنتها على قريتين من ريف دمشق هي الديماس، وهي قرية على خطّ دمشق-بيروت، ومتاخمة لقرى رابطة بين لبنان وسوريا. فهي شاءت، والكلام له، أن توجّه رسالة واضحة للولايات المتحدة، رافضة هذا الاتفاق غير المعلن في سوريا وعلى الحدود تحديدًا، وتتماهى بصورة مباشرة أو غير مباشرة مع الرفض السعوديّ المطلق لنجاح لم يتحوّل إلى اتفاقات مكتوبة.

يشي هذا التراكم الواضح والعنيف بأنّ ثمّة معادلة تهيّأ للبنان، فيما لاحت بشائر الأمل بحوار ولو بالشكل يسعى لتنفيس الاحتقان المذهبيّ، مع عدم التوقّع بنجاحه في خرق الحجب ونقل الحالة السياسيّة من انسداد الآفاق إلى انفتاحها وتوطيد رؤى جديدة ضمن المفردات والعناوين الداخليّة أولّها الاستحقاق الرئاسيّ وقانون للانتخابات. لكنّ قتل "​جبهة النصرة​" لعلي البزّال، بهذه الصورة الوحشيّة، جوّف هذا المسعى من مضمونه حتى الشكليّ، واتجه البقاع الشماليّ إلى ارتجاج مذهبيّ قريب من الانفجار.

ذلك أنّ قتل علي، وإن ارتبط بملفّ من تمّ اعتقالهم مؤخرًا من ​الجيش اللبناني​ّ، لكنّه أبان أنّ "جبهة النصرة" وتنظيم "داعش" يتحرّكان وكأن العصمة موجودة في انبثاثهما، ولا أحد يستطيع النيل منها أو سلبها من حراكها، فهي مصدر دائم للتوظيف السياسيّ بتراكمه الداخليّ من منطلق عربيّ وإقليميّ. وهي وبتصوّر السياسيّ نفسه تملك القدرة على تأليب الأرض اللبنانيّة وحرقها بالصدام المذهبيّ المحتقن، فهذا يناسبها في تلك الظروف بل هو جزء من استراتيجيّتها وبعض من امتدادها بملفين كبيرين: ملفّ العسكريين وملف الموقوفين. وهما ملفان متوازنان واحد مقابل الآخر. وبرأيه، أن "جبهة النصرة" تتوكّأ على عجز الحكومة في توتير العصب المذهبيّ وجعله أكثر التهابًا، فما أن تمّ الإعلان عن إعدام علي حتى احتقنت الأجواء بين البزّالية وعرسال واللبوة... ولم يتوقّف الاحتقان في ذلك المدى، بل ظهر بين الأهالي عينًا بانقسام عموديّ واضح في تضارب واضح للمطالب. ففي حين كان أهالي البزاليّة يطالبون الدولة باعتقال مصطفى الحجيري (أبو طاقيّة)، ظهر في المقابل من دافع عن دوره واصفًا إيّاه بالإيجابيّ. والسؤال المطروح للأهالي ما دام الحجيري يمتاز بالأخلاق العالية ورفعته ونبله، فلماذا إذًا لا يسعى للإفراج عنهم، وقبل الإفراج لماذا سلّمهم إلى جبهة النصرة، ِلمَ لم يطلق سراحهم منذ اللحظة الأولى لاعتقالهم؟ ويوضح السياسيّ المذكور بأنّ مشكلة الأهالي الآخرين ليست مع الحكومة أو السراي، وإن جاء بيان خليّة الأزمة المنبثقة منها دون المطلوب، بل مشكلتهم الحقيقيّة هي مع "جبهة النصرة". خطورة ما يطرحه هؤلاء أنه يساعد في تعويم الإرهابيين أكثر من تقليصهم. فينطلق التعويم من تبرئة ساحة "جبهة النصرة" وكأنها لم تعتقل أولادهم وصارت الحكومة هي المتهمة الوحيدة بالاعتقال.

ويلفت السياسيّ النظر إلى أنّ ثمّة بونًا بين العجز وبين التواطؤ في سلوكيات الحكومة وحراكها. فالعجز عند الحكومة لا يحاكي التواطؤ إذا ساغ التعبير إلاّ في بعض الشروط، وهي غير متوافرة في سلوكيات الحكومة ومنطلقاتها. التواطؤ قائم عند فئة سياسيّة مشاركة في هذه الحكومة لا تزال في بعض منعطفاتها تشكلّ بيئة حاضنة لهؤلاء. بيئة تتماهى مع رؤيتهم وتوجهاتهم وأدبياتهم. فتقف بعض الأوساط أمام كلّ هجوم شنّه النائب خالد الضاهر ضدّ الجيش اللبنانيّ بألفاظ مؤذية، وهو بحسب تقارير أمنية وإعلاميّة متواطئ في الحرب عليه في طرابلس وعكار من خلال السلاح الذي ضُبِط في منزله، مستغربة صمت النائب فؤاد السنيورة وعدم رفع الغطاء عنه تمهيدًا لرفع الحصانة والشروع بمحاكمته.

وتقف الأوساط عينها عند صمت السعوديين المريب وأمام قطر والسعوديّة المتواطئتين بهذا الملفّ الشائك والمرعب. فتروي تلك الأوساط كيف أن رئيس الحكومة السابق سعد الحريري أسرع إلى بيروت حاملاً إلى الجيش اللبنانيّ مليار دولار من السعوديّة، والتي حتّى الآن لم تتجسد على الأرض بتسليح الجيش، مظهرة في الرواية أن مجيء الحريري القصير جدًّا لم يكن الهدف، هو هدف معلن أمّا غير المعلن فهو تحرير نجل الأمير بندر بن سلطان الذي حرّض على المعركة في عرسال، وتتمنى تلك الأوساط أن يقوم الحريري بتكذيب تلك الواقعة بكلّ ما للكلمة من معنى.

بنهاية الأمر، الحكومة مدعوّة لاتخاذ القرار بالحسم السريع، ويتطلّب الحسم وقبل فوات الأوان ترجمة واضحة قبل كلّ شيء من "تيار المستقبل" وكتلته النيابيّة لتغليب منطق الاعتدال كما هم يوصّفون على منطق التطرّف وإلغاء الآخرين وتكفيرهم. وفي المقابل إنّ للحكومة اللبنانيّة إذا ما رامت للتوثّب باتجاه الحسم، فإنّ الطريق الأقصر للحسم تكون بإحكام القبضة على هؤلاء المجرمين بعمليّة نوعيّة واقتلاعهم من جذورهم من الجرود قبل فوات الأوان.