أتى الهجوم الإرهابي على الصحيفة الفرنسية "شارلي ايبدو" في زمن مفصلي. لن يكون بالطبع بالنسبة إلى الفرنسيين "11 أيلول" فرنسي، غير أنّ تاريخ السابع من كانون الثاني لن يكون عابراً. القضية أبعد من "ثأر" إسلاميين من رسامي كاريكاتير. لا تصنف الحادثة فقط في جدول الاعتداء على "حرية الصحافة" ولا تقاس كردة فعل محدودة الهدف وانتهى الأمر. بالنسبة الى الفرنسيين هي مؤشر خطر يوضَع في خانة الحوادث الأعنف التي مرّت على فرنسا منذ أربعين عامًا.

أتت في ذروة التحذير العالمي من تمدد "الارهاب الاسلامي" وتعملق "الجهاديين" من سوريا والعراق الى مصر وليبيا واليمن وافغانستان ونيجيريا ودول أخرى تعشعش فيها الخلايا النائمة. ومن يستطع أن ينفذ تلك العملية بدقة وحرفية وينجح بالفرار في قلب فرنسا، يستطيع أن يهدّد أمن بلد بأكمله. لِمَ لا؟ ألا يوجد فائضٌ من "الإسلاميين" في الدول الأوروبية الذين استفادوا في السنوات الماضية من دعم الغرب للتيارات الاسلامية في الشرق العربي؟ هؤلاء نظموا أنفسهم وجمعوا أموالا تحت عنوان دعم الثورات العربية وأصبحوا خبراء في التسليح والتهريب والقتال. دراسات أوروبية أشارت إلى الأعداد الكبيرة من جنسيات أوروبية تقاتل ما بين سوريا والعراق. ماذا لو عادوا الى بلادهم؟ سؤال طرحته مراكز أمنية أوروبية كما نشرت وسائل الاعلام.

ستكون السياسة الخارجية للفرنسيين موضع مساءلة: ماذا انتجت رهاناتكم في سوريا؟ لماذا هادنتم وتفرّجتم على تفشي التيارات المتطرفة تحت عنوان "الثورات"؟ لماذا تركتم الارهابيين يتحركون من مطار إلى عاصمة إلى تركيا إلى سوريا؟ ألم تتوقعوا أنّ انتشارهم هناك سيعزز وضعهم في ساحات العالم؟ أليست تلك السياسات تتحمل المسؤولية في شأن تمدد المتطرفين؟ كيف استمدّ هؤلاء قوتهم في سوريا والعراق وليبيا ووسعوا مساحات السيطرة وحصلوا على السلاح وتواجدوا في مصر وليبيا وبدأوا بالتخطيط لإجتياح الخليج لاحقاً؟

بالنسبة إلى قلة فرنسية مطلعة: ما حصل في باريس هو رجع الصدى.

وقع الأوروبيون في مصيدة نصبوها لخصومهم، تماماً كما وقع الإيرانيون في فخ "الصحوة الاسلامية". استدركت طهران جزئياً في شأن "الصحوة"، فكيف يكون استدراك الأوروبيين؟

سيتفرج الرئيس السوري بشار الأسد بصمت. هو يعلم أنّ الفرنسيين سيأتون سريعًا إلى سوريا هذه المرة يطلبون المعلومات الامنية. في السنة الماضية أتى قادة في الاستخبارات الاوروبية الى دمشق سراً. يومها طلبوا ملفات تتعلق بشبكات "القاعديين". اشترطت حينها الاستخبارات السورية أن يمر التعاون عبر السفارات. لم يستطع رجال الاستخبارات الفرنسية فرض الطلب سياسيا في بلادهم. كان الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند يراهن على سقوط النظام السوري. لم يقبل بتاتا وجود أيّ خيط سياسي - دبلوماسي يربط باريس بدمشق. لكن ماذا سيقول هولاند الآن للاستخبارات الفرنسية إن طلبت التنسيق مع السوريين؟ الأولوية ستكون حكماً أمن فرنسا فوق أيّ اعتبار، ولذلك ستعود سريعًا كلّ الخطوط.

هل تقتصر الأمور عند هذا الحد؟

بعد حادثة الصحيفة تصاعد خطاب "اليمين" الفرنسي. التحريض على الاسلام قائم. التحرك ضد "الأسلمة" يتوسع. سيدفع المسلمون والمهاجرون الثمن مهما كانت درجات انفتاحهم، حتى من يرتاد النوادي الليلية منهم سيتعرض للإحاطة الأمنية. سيجري التدقيق بهوياتهم، والتفتيش والتحري عنهم، سيتضايقون حتماً بفعل تأهب متواصل ضد كل ما هو إسلامي. حركات التظاهر ضد "الأسلمة" ستتوسع في أوروبا، من ألمانيا إلى فرنسا إلى دول أخرى.

الخطاب الاوروبي بدأ يشير الى تمدد "الإسلاميين". في العراق وسوريا تنظيم "داعش" واخواته، وفي مصر جماعة "بيت المقدس" وفي اليمن وليبيا والجزائر "قاعدة"، وفي نيجيريا "بوكو حرام"... صارت تشعر تلك الجماعات بنشوة "الفتوحات". أصبح بالمقابل الاسلام موضع اتهام وانتقاد في عواصم العالم. المشهد سوداوي بالنسبة إلى المسلمين لأنّ لا تمييز بين معتدل ومتطرف. الاسلام يدفع الثمن.

أبعد من المصالح السياسية والأمنية، هل يكون الحل بالانغلاق ام بالانفتاح؟

في الأسابيع الماضية برزت ردة فعل اسلامية في فترة الأعياد المسيحية. بانت في لبنان وسوريا والعراق والأردن وفلسطين. وظهرت أيضاً بزيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى مقرّ البابا القبطي في عيد الميلاد. المسلمون تقرّبوا من المسيحيين إلى حد بدا فيه عيد الميلاد عيدًا للمسلمين. هذا المؤشر يوحي بردة فعل صادقة تقوم على أساس التقارب الإنساني ضد التطرف. هذه الرسالة يجب أن تعمَّم في العالم تحت طائلة قدوم المسلمين على ما هو أخطر بدفع الضريبة مرتين: الهروب من دموية وإجرام المتطرفين الإسلاميين من جهة، ودفع الثمن تضييقا وترحيلا في عواصم العالم من جهة ثانية. القضية تبدو مشابهة تماماً لما تعرض له المسيحيون المشرقيون "الأرثوذكس" عند اجتياح "الصليبيين" بلاد الشام وجوارها. يومها استهدف "الصليبيون" مسيحيي المشرق العربي وحرقوا مقار البطريركية ونصبوا زعماء روحيين مكانهم من اللاتين، وبعد مغادرتهم بلاد الشام اتهمت قوى مسلمة المسيحيين بالتعاون مع "الصليبيين" وقامت تلك القوى الاسلامية أيضاً بالهجوم على مسيحيي الشرق وأجبرت بعضهم على اعتناق الاسلام، فدفع المسيحيون المشرقيون الضريبة مرتين بالدماء والانتماء.

رغم سوداوية المشهد، التقارب على اساس الاعتدال والإنسانية في مواجهة التطرف على مستوى العالم يمكن ان يتحقق. إذا كانت العلاقات الاميركية - الإيرانية على قاب قوسين من احيائها، فلماذا استبعاد تحالفات تجمع دمشق مع باريس في مواجهة الارهاب؟