يطيب لنائب رئيس مجلس النواب سابقًا ​إيلي الفرزلي​، أن يروي لأصدقائه وفي ذكرى اغتيال رئيس الحكومة السابق ​رفيق الحريري​ هذه الرواية: "كنت إلى جانب الصديق محسن دلول في ضيافة رفيق الحريري في قصره في فقرا محاطين بالثلوج، حيث أمضينا عطلة نهاية الأسبوع. وفي صباح اليوم التالي، دخل الخادم الفيلبينيّ ودعانا للنزول إلى غرفة الطعام لتناول الفطور مع الحريري. وفيما كنّا نهمّ للجلوس على الطاولة، تلقّى الحريري اتصالاً من الرئيس الباكستانيّ السّابق برويز مشرّف، وهو صديقه، يشكو إليه بأنّ الأميركيين لم يستقبلوه، طالبًا منه وساطة في هذا الأمر. فاستمهله وقتًا قليلأ لإجراء المقتضى. ثمّ تناول الهاتف، واتصل بالرئيس الفرنسيّ ​جاك شيراك​ بصورة مباشرة، والذي بدوره كان قد تمتّع بصداقة حميمة معه، عارضًا عليه هذه المسألة، قائلاً له: "جاك اتصل بي برويز والأميركيون حتّى الآن لم يستقبلوه أتمنى عليك الاتصال بهم وقم بما يلزم"، أغلق وبعد ساعة اتصل به مشرّف ليشكره ويطمئنه بأنّ الموعد قد حدّد له".

تشي تلك الرواية، لمن تابعها ومحّصها بدقّة، بأن رفيق الحريري، كان بجوهره علامة فارقة وواسعة ليس في الإطار اللبنانيّ العابر، أو العربيّ الغابر، بل على المستوى الدوليّ الفاعل والمؤثّر، ينادي رئيس فرنسا باسمه خارج السياق البروتكوليّ، ويتفاعل مع عدد كبير من رؤساء الدول بتلك الصيغة الشخصيّة الطاغية. كان في حقيقته خطابًا مؤثّرًا ولم يكن كلمة ترميها الأبواق في الهواء، أو تكتبها الكلمات على سطور من ورق، وما تلبث أن تتمزّق فيطويها النسيان. معظم من عاصروه شهدوا على قدرته الفائقة في نسج العلاقات الوديّة واستنباط الرؤى بأحداثها وتفاصيلها، فيقوم بتحليلها، ويضعها على مجهره هو، وليس على مجهر سواه، باستقلال واستدلال متلازمين، بإطار من ذاتيّة حافظت على موقعها، ومن هذا الموقع نسج علاقاته فدخل من الأبواب العريضة على المواقع الكبرى، ووقف نظيرًا للرؤساء، ولم يقف كرئيس حكومة لبنانيّ، أنتجته القوى وزرعته. بل كان يزرع من باب تحالفاته وصداقاته بسيادة ذاتيّة، ويحصد الثمار على مستويات عديدة، أهّلته ليكون من اللاعبين والمؤثّرين الكبار في كلّ المواقع وصولاً إلى ماليزيا والباكستان.

وبعد عشر سنوات على اغتياله، تتراكم في أذهان كثيرين، مجموعة أسئلة، ناتجة من هذا الحقد الكثيف والبليغ في طريقة اغتياله، منها هذا السؤال الجوهريّ: هل اغتيل رفيق الحريري رئيس الحكومة اللبنانيّة السابق، أو اغتيل الموقع الذي فاق الحدود المحليّة والعربيّة وبات جزءًا من حركيّة سياسيّة متداخلة من الجزئيّات إلى الكليّات في كل أطرها وتشعباتها، وبخاصّة أنّه يملك خصوصيّة فريدة في التأثير، تؤهلّه لا ليكون جزءًا من لعبة متناثرة، بل جزءًا مؤثّرًا في الخيارات الدوليّة والعربيّة بما هو أبعد من حدود لبنان؟

من عرف الرجل عن كثب وتمتّع بالحوار معه أو معاشرته بالطبقات الشخصيّة والسياسيّة، ذاق ميزات عدّة ومتشعّبة تمازجت فيها الحكمة بشجاعة الإقدام والحزم في القرار. وفي مسرى الاستذكار، يقول بعض عارفيه، بأنّه حين قرّر الدخول في الحياة السياسيّة بصورة مباشرة بعدما سهّل التوصّل إلى اتفاق الطائف، وأزال ركام الحرب على الأرض اللبنانيّة، أسديت إليه نصائح عديدة بعدم الدخول المباشر في الوحول اللبنانيّة المتحركة، فهي قادرة على ابتلاع كل من يقف عليها مهما علا شأنه وارتفع كعبه. لكنّ رفيقًا أصرّ كثيرًا ولم يأبه للنصائح. لكنّ دخوله بالمعنى التخطيطيّ نما من تلك الخيارات التي وضعها الرجل لنفسه في الأطر الجذريّة المتماهية في حراك دوليّ كاد أن ياخذ الشرق الأوسط إلى سلام من مدريد إلى أوسلو، إلى أن سقط خيار السلام وعادت المنطقة إلى نمط جديد من الصراع. كان هذا النمط المقدّمة الموطّئة لاستعار الحرب المذهبيّة، ودفن مشروع السلام في مقابرها من فلسطين إلى العراق، من سنة 1996 تاريخ حرب إسرائيل على لبنان إلى أحداث أيلول 2001 في الولايات المتحدة الأميركيّة. حينئذ أدرك رفيق الحريري في تحليله الدقيق أن انهيار أنظومة السلام الأميركيّة بالقبضة الإسرائيليّة في عناوين عديدة، سيجعل من العراق وسوريا، وبخاصّة بعد رفض سوريا الاندراج في الحرب على العراق بعد أحداث أيلول، وتغيير تحالفاتها مع "حزب الله" و"حماس"، مسرحًا واسعًا لحرب مذهبيّة خشي من انفجارها، وتمدّدها نحو لبنان.

حاول الرجل، بقدراته، امتصاصها من منطلق إيمانه بأن الأرض اللبنانيّة لا تتحمّل الانفلاش الطائفيّ والتراكم المذهبيّ. وبفرادته التي تشابكت فيها علاقاته الدوليّة والعربيّة، سعى إلى تخفيف وطأة ما يحاك للمنطقة عن طريق لبنان والعراق. لم يكن شديد الحماسة لخروج سوريا من لبنان بقدر ما كان ساعيًا لتوظيف علاقاته للتأكيد على ضرورة استمرار رعايتها للتسوية اللبنانيّة مع المملكة العربيّة السعوديّة، وقد جاء خطاب جاك شيراك الشهير في المجلس النيابيّ اللبنانيّ وفيه قال بأن سوريا باقية في لبنان، تأكيدًا لتلك الرؤية. فما هو التسويغ الذي دفع شيراك للانقلاب على ذلك المفهوم والطلب من جورج بوش إخراج سوريا من لبنان؟

لم يكن الأميركيون بحاجة لهذا الطلب، إذا إنهم عازمون في الأساس على معاقبة سوريا. وتاليًا على نحت شرق أوسط جديد كما أعلنت وزيرة الخارجية الاميركية السابقة كوندوليزا رايس تستبدّ به الصراعات المذهبيّة والطائفيّة. وبتحليل بسيط ونظريّ، لا يمكن للانفجار أن يحدث بلا زلزال كبير، حدث باغتيال الرجل في 14 شباط من سنة 2005. واغتياله منذ عشر سنوات حرّر لبنان من سوريا بالقرار 1559، والسؤال المطروح، هل يعقل لسوريا إنهاء دورها واتصالها بلبنان بالعمق الإستراتيجي والسياق الإيديولوجيّ عن طريق قتل من أدخلها في مصالحات وشراكات واضحة؟ وماذا يستفيد "حزب الله" من قتله، وهو الذي نسج معه أطيب وأوثق العلاقات وتبنّى دور المقاومة؟

يوم الاثنين 14 شباط 2005، خرجت جريدة "النهار"، وقبل ساعات قليلة من قتله بافتتاحية لغسان تويني بعنوان استقرائيّ: "حذار من عورقة لبنان". وبعد افتتاحيته اغتيل رفيق الحريري في بيروت. والاغتيال هدف لأمرين:

1- تحرير لبنان من سوريا، بالقرار 1559. وإدخاله في مشروع وصايات بديلة.

2- إدخال لبنان وسوريا من البوابة العراقيّة في أتون حرب شيعيّة-سنيّة اشتركت فيها العناصر التكفيريّة التي حوّلت الربيع العربيّ إلى عاصفة سوداء حجبت الضياء عن الأرض. وما الحرب الإسرائيليّة في تموز 2006 سوى المقدمات لانفجار الوضع، واجتياز لبنان مجموعة رهانات ساخنة.

لهذين السببين اغتيل رفيق الحريري، واغتيلت معه آفاق تسووية عاقلة تنتمي إلى الهالة الراسخة على الرغم من انكسار الجسد.